الإرادة فى التعاقد والتصرفات
يتناول البحث الإرادة فى العقد كركن هام من أركانه من حيث الرضا والمحل والسبب المشروع والصحة والبطلان ، وفقا لأحكام القانون المدنى ، وشرح العلامة المرحوم عبد الرزاق السنهورى فى مؤلفه الوسيط فى شرح القانون المدنى
محتويات المقال
الإرادة فى العقد
العقد يقوم على الإرادة ، أي تراضي المتعاقدين . والإرادة يجب أن تتجه إلى غاية مشروعة ، وهذا هو السبب . فالعقد إذن ركنان : التراضي والسبب
- 1 – التراضي .
- 2 – المحل .
- 3 – السبب
- 4 – البطلان .
الفرع الأول التراضي
- 1 – وجود التراضي .
- 2 – صحة التراضي .
وجود التراضي
التراضي هو تطابق إرادتين حيث نصت المادة 89 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
يتم العقد بمجرد أن يتبادل طرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين؛ مع مراعاة ما يقرره القانون فوق ذلك من أوضاع معينة لانعقاد العقد فالتراضي إذن هو تطابق إرادتين والمقصود بالإرادة هنا الإرادة التي تتجه لإحداث أقر قانوني معين هو إنشاء الالتزام .
أركان الإرادة ( أو العمل القانوني )
والإرادة بهذا التحديد هي العمل القانوني والعمل القانوني كما رأينا أعم من العقد . فكان المنطق يقضي بأن يكون بحث العقد داخلا ضمن بحث العمل القانوني ، لا العكس . ولكن الناحية العملية تتغلب هنا .
فالعقد هو العمل القانوني الأكثر شيوعا في التعامل . والقواعد التي تنطبق على العقد هي ذات القواعد التي تنطبق على العمل القانوني ، إذا استثنينا منها تلك التي يقتضيها توافق الإرادتين ، كما سنبين ذلك عند الكلام في الإرادة المنفردة ، أي في العمل القانوني الصادي من جانب واحد . ومن ثم فأركان العمل القانوني هي بعينها أركان العقد :
إرادة صحيحة ، أي إرادة صادرة من ذى أهلية وخالية من العيوب ، تقع على محل مستوف لشروطه ، وتتجه لتحقيق سبب مشروع .
اتجاه الإرادة لأحداث أثر قانوني
كيف يتم التعاقد
- ( 1 ) التعبير عن الإرادة .
- ( 2 ) توافق الإرادتين
- ( 3 ) مرحلة تمهيدية في التعاقد – الاتفاق الابتدائي والعربون .
التعبير عن الإرادة
تعبير الأصيل وتعبير النائب :
قد يصدر التعبير عن الإرادة من الأصيل في التعاقد وقد يصدر من نائب عنه . فتتكلم :
- ( أولاً ) في التعبير الصادر من الأصيل
- ( ثانيًا ) في التعبير الصادر من النائب ، أي النيابة في التعاقد .
1 ـ التعبير الصادر من الأصيل
الإرادة ومظهر التعبير عنها :
يجب التمييز بين الإرادة الكامنة في النفس والمظهر الخارجي للتعبير عنها .
أما الإرادة الكامنة في النفس فهي عمل نفسي ينعقد به العزم على شيء معين وما دامت الإرادة عملا نفسيًا فإنه لا يعلم بها من الناس إلا صاحبها ، ولا يعلم بها غيره إلا إذا عبر عنها بأحد مظاهر التعبير .
التعبير الصريح والتعبير الضمني :
نصت المادة 90 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
- التعبير عن الإرادة يكون باللفظ وبالكتابة وبالإشارة المتداولة عرفًا ، كما يكون باتخاذ موقف لا تدع ظروف الحال شكا في دلالته على حقيقة المقصود .
- ويجوز أن يكون التعبير عن الإرادة ضمنيا إذا لم ينص القانون أو ينفق الطرفان على أن يكون صريحًا
ونرى من ذلك أن التعبير عن الإرادة ـ وهو مظهرها الخارجي وعنصرها المادي المحسوس ـ يكون تارة تعبيرًا صريحًا وطورًا تعبيرًا ضمنيًا .
ويكون التعبير عن الإرادة صريحا إذا كان المظهر الذي اتخذه ـ كلاما أو كتابة أو إشارة أو نحو ذلك ـ مظهرًا من موضوعًا في ذاته للكشف عن هذه الإرادة حسب المألوف بين الناس . فالتعبير الصريح قد يكون بالكلام ، وذلك بإيراد الألفاظ الدالة على المعنى الذي تنطوي عليه الإرادة . وقد يؤدي اللسان هذه الألفاظ مباشرة وقد يؤديها بالواسطة كالمخاطبة التليفونية وكإيفاد رسول لا يكون نائبًا .
وقد يكون التعبير الصريح بالكتابة في أي شكل من أشكالها ، عرفية كانت أو رسمية ، في شكل سند أو كتاب أو نشرة أو إعلان ، موقعا عليها أو غير موقع ، مكتوبة باليد أو بالآلة الكاتبة أو بالآلة الطابعة أو بأية طريقة أخرى ، أصلا كانت أو صورة . وبديهي أن الإثبات بالكتابة يتطلب شروطا أشد مما يتطلبها التعبير بالكتابة .
ويكون التعبير الصريح أيضًا بالإشارة المتداولة عرفا ، فإشارة الأخرس غير المبهمة تعبير صريح عن إرادته ، وأية إشارة من غير الأخرس تواضعت الناس على أن لها معنى خاصا يكون تعبيرا صريحا عن الإرادة ، كهز الرأس عموديًا دلالة على القبول وهزها أفقيا أو هز الكتف دلالة على الرفض . ويكون التعبير الصريح أخيرًا باتخاذ أي موقف آخر لا تدع ظروف الحال شكا في دلالته على حقيقة المقصود ، فعرض التاجر لبضائعه على الجمهور مع بيان أثمانها يعتبر إيجابًا صريحًا .
ووقوف عربات الركوب ونحوها في الأماكن المعدة لذلك عرض صريح على الجمهور . ووضع آلة ميكانيكية لتأدية عمل معين كميزان أو آلة لبيع الحلوى أو لتوزيع طوابع البريد أو نحو ذلك ، كل هذا يعد تعبيرًا صريحًا.
ويكون التعبير عن الإرادة ضمنيا إذا كان المظهر الذي اتخذه ليس في ذاته موضوعًا للكشف عن الإرادة ، ولكنه مع ذلك لا يمكن تفسيره دون أن يفترض وجود هذه الإرادة ، مثل ذلك أن يتصرف شخص في شيء ليس له ولكن عرض عليه أن يشتريه . فذلك دليل على أنه قبل الشراء إذ يتصرف تصرف المالك . وكالموعود بالبيع يرتب حقا على العين الموعود ببيعها ،
وكالدائن يسلم سند الدين للمدين فهذا دليل على أنه أراد انقضاء الدين ما لم يثبت عكس ذلك . وكالمستأجر يبقى في العين المؤجرة بعد نهاية الإيجار ويصدر منه عمل يفهم على أنه يراد به تجديد الإيجار ( أنظر م 599 ) ، وكالوكيل يقبل الوكالة بتنفيذها ، وكمدير ملعب يعد للتمثيل رواية عرضها مؤلف عليه.
أي مظهر من مظاهر التعبير الصريحة أو الضمنية يكفي بوجه عام في التعبير عن الإرادة ، مع مراعاة أن هناك عقودًا شكلية سبقت الإشارة إليها تستلزم أن يتخذ التعبير مظهرًا خاصًا؛ في شكل معين ، ومع مراعاة أن هناك قواعد للإثبات تستوجب الكتابة في كثير من الفروض ، ولكن الكتابة في هذه الحالة الأخيرة مظهرًا للتعبير عن الإرادة بل طريقًا لإثبات وجودها بعد أن سبق التعبير عنها .
ومع ذلك فهناك أحوال يجب أن يكون التعبير عن الإرادة فيها تعبيرًا صريحًا ، ولا يكتفي بالتعبير الضمني . وهي أحوال يراد فيها عادة تنبيه العاقد قبل التعاقد إلى وجه الخطر فيما هو مقدم عليه ، فلا يبرم الأمر إلا بعد التروي وإلا بعد أن تصدر منه إرادة صريحة .
وهذا نوع من الشكلية المهذبة . وهذه الأحوال إما أن ينص عليها المشرع أو يتفق عليها المتعاقدان .
مثل الذي ينص عليه المشرع حجية الدفاتر والأوراق المنزلية لا تقوم إلا في إحدى حالتين ، أن يذكر المدين فيها صراحة أنه استوفى دينًا أو أن يذكر صراحة أنه قصد بما دونه في هذه الأوراق أن تقوم مقام السند ( أنظر م 398 )
وبائع التركة يرد للمشتري ما استولى عليه منها ما لم يكن عند البيع قد اشترط صراحة عدم الرد ( أنظر م 457 ) ، وبراءة ذمة المستأجر الأصلي نحو المؤجر إذا صدر من هذا قبول صريح بالتنازل عن الإيجار أو بالإيجار من الباطن ( أنظر م 597 ).
وقد يتفق المتعاقدان على أن يتخذ مظهر التعبير عن الإرادة شكلاً خاصًا أن يكون تعبيرًا صريحًا أو يكون بالكتابة أو بكتابة رسمية ، وفي هذه الأحوال ينفذ الاتفاق فلا يوجد التعبير إلا في الشكل المتفق عليه وقد سبق بيان ذلك ( [11] ) .
وكل ما قدمنا عن التعبير الصريح والتعبير الضمني كان معمولا به قضاء دون نص في ظل القانون القديم ( [12] ) .
الإرادة الباطنة والإرادة الظاهرة
تمهيد :
إذا لم تختلف الإرادة الداخلية عن مظهرها الخارجي ، فسيان الأخذ بالإرادة الباطنة أو بالإرادة الظاهرة ما دام الاثنتان متطابقتين . أما إذا اختلفتا ـ كما إذا أمضى شخص عقدًا مطبوعًا يتضمن شرطًا كان لا يقبله لو فطن له ، وكشخص ينزل في فندق على شروط لا يعملها ولكنها مكتوبة ومعلقة في غرفته ، وكمن يوصي على أثاث منزلي بطريق التأشير على بيان مطبوع فإذا به يؤشر على أثاث غرفة نوم وهو يريد أثاث غرفة استقبال ـ فالقاعدة المعروفة في القوانين اللاتينية أن الإرادة الباطنة هي التي يؤخذ بها .
ولكنها نظرية حديثة كان للألمان الضلع الأكبر فيها ، تأخذ بالإرادة الظاهرة ، ومن هنا اختلفت المدرسة الألمانية مع المدرسة الفرنسية في العقد كما اختلفتا في الالتزام وكما اختلفتا في نظرتهما العامة للعلاقات القانونية . فالأولى تقف أمام المظاهر المادية المحسوسة فنظرتها موضوعية والأخرى تنفيذ إلى البواطن النفسية فنظرتها ذاتية فإذا اقتصرنا على العقد رأينا المدرسة الفرنسية تأخذ بالإرادة الباطنة ، وتأخذ المدرسة الألمانية بالإرادة الظاهرة .
نظرية الإرادة الباطنة
وهي تبحث عن الإرادة فيما تنطوي عليه النفس . أما مظهر التعبير عن الإرادة فليس إلا قرينة عليها تقبل إثبات العكس . فإذا قام دليل من جهة أخرى على أن المظهر المادي لا يتفق مع الإرادة النفسية ، فالعبرة بهذه لا بذاك . وإذا تعذر الوصول إلى معرفة الإرادة النفسية عن طريق الجزم
فما على القاضي إلا أن يعرفها عن طريق الافتراض . فالإرادة الحقيقة أولاً ، وإلا فالإرادة المفترضة ـ ولكنها ـ حقيقية أو مفترضة ـ هي الإرادة الباطنة لا الإرادة الظاهرة وهي الإرادة الحرة المختارة في معدنها الحقيقي ، غير متأثرة لا بغش ولا بإكراه ولا بغلط .
نظرية الإرادة الظاهرة
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بحث من بحثهم إلى أن هذه الإرادة النفسية لا يجوز أن يكون لها أثر في القانون فهي شيء كامن في النفس ، والإرادة التي تنتج أثرا هي الإرادة في مظهرها الاجتماعي ، لا في مكمنها وهي تختلج في الضمير .
ولا تأخذ الإرادة مظهرًا اجتماعيًا إلا عند الإفصاح عنها . فالعبرة بهذا الإفصاح ، إذ هو الشيء المادي الذي يستطيع القانون أن يحيط به وأن يرتب أحكامه ، دون حاجة إلى تحسس ما تنطوي عليه النفس من نيات . فإن القانون ظاهرة اجتماعية لا ظاهرة نفسية ، والإرادة الباطنة لا وجود لها إلا في العالم النفسي
فإذا أريد أن يكون لها وجود في العالم الاجتماعي ، وجب أن تتجسم في المظهر المادي لها ، وهو ما يستطاع إدراكه . وفي هذا استقرار للتعامل ، وطمأنينة لمن يسكن بحق إلى ما يظهر أمامه من إرادة لا يستطيع التعرف عليها إلا من طريق التعبير عنها ، فلا يحتج عليه بعد ذلك بأن من تعاقد معه كان ينطوى على نية أخرى غير التي تستخلص من الطريق الذي اختاره للتعبير عن هذه النية ( [14] ) .
ولا يشترط أصحاب نظرية الإرادة الظاهرة طريقًا خاصًا لمظهر التعبير ، فأي مظهر من هذه المظاهر يصح عندهم . وقد يكون هذا المظهر تعبيرا صريحًا أو تعبيرًا ضمنيًا ، وقد يكون مجرد السكوت في أحوال خاصة مظهرًا من مظاهر التعبير . والمهم عندهم ألا تقتصر الإرادة على عمل نفسي ، بل تبرز إلى العالم المادي في علامة ظاهرة ، هي التي نقف عندها ، ونقدر الإرادة بقدرها .
وهم لا يكتفون من المظهر الخارجي للإرادة بأن يكون مجرد دليل عليها ـ دليل يقبل إثبات العكس إذا تبين من الظروف أن التعبير الخارجي لا يتفق مع الإرادة الداخلية ـ ولو اكتفوا بذلك لاتفقوا مع أصحاب نظرية الإرادة الباطنة.
ولكنهم يذهبون إلى مدى أبعد ، ويعتبرون هذا المظهر الخارجي هو العنصر الأصلي للإرادة ، فيجب الوقوف عنده . وإذا كان لا بد من اعتباره دليل على الإرادة الداخلية ، فهو دليل لا يقبل إثبات العكس . فلا يسمع لشخص يدعي أنه أضمر غير ما أمظهر ، ما دام قد أراد هذا التعبير الذي اختاره لإرادته ( [15] ) .
موقف القانون الجديد من الارادة
سبق القول إن القانون الجديد انحرف انحرافًا بسيطًا عن تقاليد القانون القديم في أمر الإرادة الباطنة والإرادة الظاهرة فلم يجمد في الوقوف عند الإرادة الباطنة ، بل تزحزح قليلا نحو الإرادة الظاهرة حتى يكفل الاستقرار في التعامل ، على أنه لم يبلغ مبلغ القانون الألماني في اقترابه من الإرادة الظاهرة كما سبق أن بينا . وإذا جاز أن يقال إن القانون الألماني قد أكمل نظرية الإرادة الظاهرة بنظرية الإرادة الباطنة ، فإن القانون الجديد يكون قد أكمل نظرية الإرادة الباطنة بنظرية الإرادة الظاهرة .
متى ينتج التعبير عن الإرادة أثره
والتعبير عن الإرادة ـ سواء كان صريحًا أو ضمنيًا ـ وسواء اعتد فيه بالإرادة الباطنة أو بالإرادة الظاهرة ـ لا ينتج أثره إلا في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه . وهذا ما تقضى به المادة 91 من القانون المدني الجديد ، فهي تنص على ما يأتي :
ينتج التعبير عن الإرادة أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه ، ويعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به ما لم يقم الدليل على عكس ذلك. ( [16] ) ولا نظير لهذا النص في القانون المدني القديم .
ولإيضاح ذلك يجب التمييز بين وجود التعبير وجود فعليًا ووجوده وجودًا قانونيا . فالتعبير يكون له وجود فعلى بمجرد صدوره من صاحبه ، ولكنه ولا يكون له وجود قانوني إلا إذا وصل إلى علم من وجه إليه . العبرة في التعبير بوجوده القانوني لأن هذا الوجود وحده هو الذي تترتب عليه الآثار القانونية للتعبير . وهذا هو المعنى المقصود من إنتاج التعبير لأثره.
فإذا كان التعبير عن الإرادة إيجابًا مثلا فإنه لا ينتج أثره إلا إذا وصل إلى علم المتعاقد الآخر الذي يوجه إليه الإيجاب . ومتى وصل إلى علمه أنتج أثره . ومعنى ذلك أن الإيجاب من وقت العلم يعتبر قائمًا لا يجوز العدول أثره .
ومعنى ذلك أن الإيجاب من وقت العلم يعتبر قائمًا لا يجوز العدول عنه ، وكان قبل العلم أي قبل أن ينتج أثره يجوز فيه العدول ، ولكن هذا ليس معناه أن الإيجاب الذي أصبح من وقت العلم قائمًا لا يجوز العدول عنه ، هو إيجاب ملزم لا يجوز الرجوع فيه . فإن الإيجاب الذي لا يجوز العدول عنه ، يجوز مع ذلك الرجوع فيه ، ما لم يكن ملزمًا .و حتى يكون الإيجاب ملزمًا .
وحتى يكون الإيجاب ملزما يجب توافر شروط معينة سيأتي الكلام فيها . ومن ذلك يتبين أن العدول لا يكون إلا قبل أن يستكمل الإيجاب وجوده القانوني ، أما الرجوع فلا يكون إلا بعد أن يستكمل الإيجاب هذا الوجود بشرط ألا يكون ملزمًا ، فإذا كان ملزما فلا يجوز العدول عنه ولا الرجوع فيه .
و إذا كان التعبير عن الإرادة بول مثلا ، فإنه كذلك لا ينتج أثره إلا من وقت علم الموجب به . وأثره القبول أكثر وضوحًا من أثر الإيجاب ، فإن القبول إذا أنتج أثره كان هذا الأثر هو تمام العقد . ومن ذلك يتبين أن القبول إذا صدر فلا يتم به العقد إلا من وقت وصوله إلى علم الموجب ، وهذه هي نظرية العلم التي سنراها في التعاقد بين الغائبين .
وقد جاءت المادة 91 بقرينة قانونية على العلم لما قد ينطوي عليه من خفاء ، فقضت بأن وصول التعبير قرينة على العلم به ، لأن العادة جرت أن الناس إذا وصل إليهم شيء أحاطوا به علمًا وقت وصوله . على أن هذه القرينة القانونية ليست قاطعة ، فيجوز لمن وصل إليه التعبير أن يثبت أنه لم يعلم به بالرغم من وصوله ، وهو الذي يحمل عبء الإثبات ( [17]
ويتبين مما تقدم أن القانون الجديد قطع في أمر كان القانون القديم فيه مترددًا ، غذ جعل التعبير عن الإرادة ينتج أثره من وقت العلم به ، وكان القضاء في القانون القديم يتردد بين وقت إعلان التعبير ووقت تصديره ووقت وصوله ووقت العلم به ، وسنرى ذلك عند الكلام في التعاقد بين الغائبين .
الموت وفقد الأهلية – أثرهما في التعبير عن الإرادة :
وقد قدمنا أن التعبير عن الإرادة يكون له وجود فعلى من وقت صدوره من صاحبه ، وهذا الوجود الفعلي يبقى له حتى لو مات صاحبه أو فقد أهليته . وهنا اعتبر القانون الجديد أن التعبير عن الإرادة قد انفصل عن صاحبه ما دام قد تم له الوجود الفعلي .
فلا يسقط بموت من صدر منه التعبير ولا بفقده لأهليته وفي هذا ضرب من الأخذ بالإرادة الظاهرة دون الإرادة الباطنة التي تبقى كامنة في نفس صاحبها وتموت بموته وتزول بفقده لأهليته . وإذ اعتبر القانون الجديد ذلك . فقد رتب على هذا الاعتبار نتيجة هامة خالف فيها القانون القديم . فجعل التعبير يبقى بعد الموت أو فقد الأهلية ، بل ويستكمل وجود القانوني بوصوله إلى علم من وجه إليه .
وهذا ما تقضى به المادة 92 من القانون الجديد ، فهي تنص على ما يأتي :
إذا مات من صدر منه التعبير عن الإرادة أو فقد أهليته قبل أن ينتج التعبير أثره ، فإن ذلك لا يمنع من ترتب هذا الأثر عند اتصال التعبير يعلم من وجه إليه ، هذا ما لم يتبين العكس من التعبير أو من طبيعة التعامل ( [18] ) .
وقد كان القضاء المصري في ظل القانون القديم يجري على أن موت صاحب الإرادة أو فقده لأهليته قبل أن تنتج الإرادة أثرها يستتبع سقوط الإرادة ( [19] )
ويرجع هذا في رأينا إلى أن القانون القديم لم يكن يستطيع أن يتصور انفصال الإرادة عن صاحبها ، فهو لا يراها إلا إرادة كامنة في النفس تموت بموت صاحبها وتزول بفقده لأهليته . ولا شك في أن حكم القانون الجديد في هذه المسألة يفضل حكم القانون القديم من حيث استقرار التعامل .
والمثل الآتي بوضح ذلك :
شخص في مصر كتب لآخر في فرنسا يعرض عليه صفقة ، فقلها الآخر ، ولكنه مات قبل أن يصل القبول إلى علم الموجب ، ولم يكن هذا عند وصول القبول إليه يعلم بموت صاحبه . العقد في هذه الحالة يتم وفقًا للقانون الجديد ، وكان لا يتم في ظل القانون القديم . وظاهر أن القول بتمام العقد هو الذي يتفق مع استقرار التعامل ، فإن الموجب لا مأخذ عليه إذا هو اطمأن إلى تمام الصفقة ورتب شؤونه على هذا الاعتبار ( [20] ).
ويجب على ورثة القابل في هذه الحالة ( وعلى القيم في حالة فقد الأهلية ) وقد تم العقد أن يقوموا بتنفيذه في الحدود التي تلتزم بها الورثة بعقود مورثهم ( [21] ) . وغنى عن البيان أن العقد لا يتم في المثل المتقدم إذا تبين من الإيجاب أو من طبيعة التعامل أن شخص القابل هو محل الاعتبار .
فإذا قصد الموجب ـ وبان هذا القصد في إيجابه صراحة أو ضمنًا ـ أن العقد لا يتم إلا مع القابل بالذات ، أو كان الأمر المعقود عليه تستعصى طبيعته أن يقوم بتنفيذه غير القابل شخصيًا ، كما إذا كان هذا فنانًا وعرض عليه القيام بعمل يدخل في فنه ، فإن القبول يسقط بموت القابل ( [22] ) .
كل هذا بخلاف من وجه إليه القبول ، فإنه إذا فقد أهليته أو مات قبل وصول القبول إلى علمه فإن العقد لا يتم ، لأن القبول في هذه الحالة لا يمكن أن ينتج أثره ، إذ هو لن يصل إلى علم من وجه إليه بعد أن مات ، فيبقى الإيجاب دون قبول ولا يتم العقد ( [23] ) .
هوامش البحث فيما تقدم أعلاه من تعليق وشرح
( 1 ) يجب على التراضي أن يكون في شكل مخصوص كما في العقود الشكلية التي سبق ذكرها . ففي هذه الحالة يكون هذا الشكل المخصوص ركنا من أركان العقد .
( 1 ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المشروع التمهيدي في المادة 135 منه على الوجه الآتي : ” يتم العقد بمجرد أن يتبادل الطرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين ، ما لم يقرر القانون أوضاعًا معينة لانعقاد العقد ” .
وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” قطع المشروع بإيثار مذهب أفراده الظاهرة بصورة واضحة في هذا النص ، فلم يتطلب لانعقاد العقد توافق إرادتين ، بل استلزم تبادل التعبير عن إرادتين متطابقتين
وهذا القول الذي ورد في المذكرة الإيضاحية يوهم أن القانون الجديد قد انحاز إلى نظرية الإرادة الظاهرة انحيازًا تامًا . والواقع غير ذلك . فقد رأينا أن القانون الجديد في وضعه النهائي قد سلك مسلكا وسطا بين نظريتي الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة ، بل هو قد جعل الإرادة الباطنة هي الأصل ، ولم يعدل عنها إلى الإرادة الظاهرة إلا إذا اقتضى استقرار التعامل هذا العدول .
ولما تتلى النص الذي نحن بصدده في لجنة المراجعة ، أضيف إليه عبارة ” فوق ذلك ” ، فأصبح كما يأتي : ” يتم العقد بمجرد أن يتبادل الطرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين ما لم يقرر القانون فوق ذلك أوضاعا معينة لانعقاد العقد ” .
للما تتلى النص الذي نحن بصدده في لجنة المراجعة ، أضيف إليه عبارة ” فوق ذلك ” ، فأصبح كما يأتي : ” يتم العقد بمجرد أن يتبادل الطرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين ما لم يقرر القانون فوق ذلك أوضاعا معينة لانعقاد العقد ” . وقد أصبح مفهوما بهذا التعديل أن اشتراط أوضاع معينة لانعقاد العقد لا يغني عن تطابق الإرادتين . ثم قدمت المادة بالنص الآتي :
يتم العقد بمجرد أن يتبادل طرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين مع مراعاة ما يقرره القانون فوق ذلك من أوضاع معينة لانعقاد العقد.
وقد وافق مجلس النواب عليها دون تعديل تحت رقم 91 . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ تليت هذه المادة فوافقت اللجنة عليها كما هي بعد المناقشة وأصبح رقمها 89 . ووافق مجلس الشيوخ على النص كما أقرته لجنته .
( أنظر في كل هذا مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 8 ص 13 ) .
( 2 ) والذي يقع عادة أن الإرادتين المتطابقتين تتعاقبان ولا تتعاصران ، فيصدر الإيجاب أولا ، ثم يليه القبول مطابقا له . ومع ذلك قد تتعاصر الإرادتان المتطابقتان ، كما في الرجان على سباق الخيل ، إذ يدفع عدد من المتراهنين المبالغ التي يراهنون بها في وقت واحد .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي :
وفي الغالبية العظمى من الأحوال يبدأ أحد المتعاقدين بالإيجاب ، ثم يتلوه قبول المتعاقد الآخر . ولكن ليس من الضروري أن يلى القبول الإيجاب ، فقد يتم العقد يتلاقى تعبرين متعاصرين عن إرادتين متطابقتين ، كما هو الشأن كما هو الشأن في الرهان على سباق الخيل .
( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 10 )
( 1 ) وقد قضت محكمة النقض بأن المقصود بالرضاء الصحيح هو كون المتصرف مميزا يعقل معنى التصرف وبقصده ، والغرض من كونه مميزًا يعقل معنى التصرف أن يكون مدركا ماهية العقد والتزاماته فيه . أما كونه يقصده فالغرض منه بيان ألا بد من إرادة حقه منه لقيام هذا الالتزام فالإرادة إذن ركن من الأركان الأساسية لأي تصرف قانوني ( وكان المتصرف وقت تحرير العقد مريضًا عصبيًا أفقده الإرادة وانتهى بالانتحار )
( نقض مدني في 8 مارس سنة 1934 مجموعة عمر 1 رقم 169 ص 329 ) .
وقد اشتمل المشروع التمهيدي على نصين في هذا الموضوع حذفا في المشروع النهائي فكانت المادة 127 من المشروع التمهيدي تنص على ما يأتي :
يكون التعبير عن الإرادة باطلا إذا صدر من شخص وهو في حالة غيبة أو هو مصاب باضطراب عقلي ولو كان الإضراب وقتيا ، بحيث يكون هذا الشخص فاقد التمييز.
وورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي :
يقصد من هذا الحكم إلى مواجهة حالات الاضطراب العارض التي لا تكفي لفقد الأهلية بوجه دائم وإن استتبعت فقد الإرادة ما بقى الاضطراب قائما ، كما هو الشأن في الغيبة والسكر والتنويم المغناطيسي .
( أنظر التقنين الألماني تعليقات 1 ص 103 )
ويفرق القانون الإنجليزي بين التصرفات التي تنعقد بإرادة منفردة والعقود التي لا تتم إلا بإرادتين . ويجعل من الاضطراب العقلي والسكر سببا لبطلان الأولى دون الثانية . والظاهر أن هذه التفرقة ترجع إلى مغالاة هذا القانون في الحرس على استقرار المعاملات .
( جنكس م 64 و 69 ـ ولونستون 1 ص 111 )
ولما تليت المادة 127 في لجنة المراجعة اقترح حذفها لوضوح حكمها ولعدم الحاجة إليها ، فوافقت اللجنة على ذلك .
وكانت المادة 128 من المشروع التمهيدي تنص على ما يأتي :
لا يكون التعبير عن الإرادة باطلا لمجرد أن صاحبه قد أضمر غير ما أظهر ، ولكنه يكون باطلا إذا كان من وجه إليه يعلم بهذا التحفظ الذهني.
وورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي :
يتناول هذا النص مسألة التحفظ الذهني ، وهي تثير من فورها أمر البحث في المفاضلة بين مذهب الإرادة الباطنة ومذهب الإرادة الظاهرة ، فإذا لم تطابق الإرادة الظاهرة الإرادة الباطنة قبأيهما يؤخذ ؟ أخذ المشروع بالمذهب الجرماني ، مؤثرا الإرادة الظاهرة ، وليس شك في أن هذا المذهب أكفل بتحقيق الاستقرار في نطاق الروابط القانونية وأكثر استجابة لمقتضيات الائتمان . وهو يصادف ، فضلا عن ذلك ، سندًا قويا في الشريعة الإسلامية ، غذ هي تعتد اعتدادا بينا بالإرادة الظاهرة.
متأثرة في ذلك بنزعة مادية واضحة ، فإذا كان من وجه إليه التعبير عالما بالتحفظ الذهني المتعلق بهذا التعبير ، فلا محل لعدم الأخذ بالإرادة الحقيقة إذ لم يعد في الأخذ بها إخلال بتأمين المعاملات . وقد ذهب القضاء المصري إلى إيثار المذهب الذي اتبعه المشروع في الفروض النادرة التي طرحت عليه بشأن التحفظ الذهني.
( استئناف مختلط 20 فبراير سنة 1896 م 8 ص 132 )
ولما تليت المادة 128 في لجنة المراجعة اقترح حذفها لأن فيها إمعانا في الدقة لا حاجة لنا به فوافقت اللجنة على ذلك .
( أنظر في كل هذا مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 29 ـ ص 30) .
( 1 ) ويقرر علماء النفس أن الإرادة يسبقها عملا تحضيريان ويليها عمل تنفيذي . فأول مرحلة هي اتجاه الفكر إلى أمر معين ، وهذا هو الإدراك ثم يلى ذلك مرحلة التدبر فيزن الشخص الأمر وبتدبره
ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي إمضاء العزيمة في هذا الأمر والبت فيه ، وهذه هي الإرادة فإذا انعقدت لم يبق بعد ذلك إلا مرحلة رابعة وهي مرحلة التنفيذ. وهذه المرحلة الأخيرة هي عمل خارجي ، أما المراحل الثلاث الأولى فهي مراحل داخلية نفسية :
اثنتان منها ترجعان إلى التفكير والثالثة هي الإرادة المقصودة .
وتميز علماء النفس هذه المراحل بعضها عن بعض حتى لا تختلط الإرادة بالرغبة ، وهذا شيء سابق ، ولا تلتبس بالتنفيذ ، وه وشيء لاحق . وإلا فإن النظريات الحديثة في علم النفس لا تسلم بالتمييز فيما بين المراسل المختلفة هذا التمييز الدقيق .
فإنه يصعب القول بأن العمل النفسي ، وهو بطبيعته عمل معقد يمر على مراحل متميزة بعضها عن بعض تميزا فيه كل هذا الوضوح ومن الصعب الجزم بأن الإنسان لا يدخل في مرحلة التدبر إلا بعد أن يتم مرحلة الإدراك . فإن الإدراك والتدبر ينفعل أحدهما مع الآخر التدبر لا يزن فيها الإنسان الأمر على هذا النحو المادي ، فيستخلص أسبابا للإقدام على العمل وأخرى للإحجام عنه
فإن العمل النفسي أكثر تعقيدا وأقل وضوحًا . فإذا انتهينا إلى مرحلة الإرادة خيل لمن يتتبع التحليل المتقدم أن هناك قوة نفسية مستقلة ، غير قوة الإدراك وقوة التدبر ، هي التي تتولى البت في الأمر وتكون حكا لا تعقيب على حكمه ، مع أن الإرادة ليست إلا ما ينتهي إليه الإدراك والتدبر ، فهي ليست مستقلة عنهما ، وما هي إلا امتداد طبيعي لما أودع في الإنسان من تكفير وتمييز وتبصير .
( 1 ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المشروع التمهيدي ( م 124 ) على الوجه الآتي :
1 – يجوز التعبير عن الإرادة بالألفاظ وبالكتابة وبالإشارة المتداولة عرفا ، كما يجوز ذلك أيضًا باتخاذ موقف يكون من شأنه تعبا للظروف ألا يدع شكا فيما يشتمل عليه هذا التعبير .
2 – ويجوز أن يكون التعبير عن الإرادة ضمنيا إذا لم يقض القانون أو ينفق الطرفان على أن يكون صريحًا.
فأدخلت لجنة المراجعة عليه تعديلات لفظية أصبح بعدها مطابقًا للنص الوارد في القانون ، وأخذ رقم المادة 92 من المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على النص دون تعديل تحت رقم 92 . ولما تليت المادة في لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ دارت مناقشات طويلة حولها انتهت إلى أن أغلبية اللجنة رأت حذفها ، ثم رجع عن هذا الرأي في جلسة أخرى وأقرت بقاءها ، وأصبح رقم المادة 90 . ووافق مجلس الشيوخ على النص كما أقرته اللجنة .
( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 14 و ص 15 ـ ص 19 ) .
( 1 ) وقد كان المشروع التمهيدي يشتمل على النص الآتي ( م 134 من المشروع ) :
1 – يعتبر عرض البائع مع بيان ثمنها إيجابا.
2 – أما النشر والإعلان وبيان الأسعار الجاري التعامل بها وكل بيان آخر متعلق بعروض أو طلبات موجهة للجمهور أو للأفراد ، فلا يعتبر عند الشك إيجابًا ، وإنما يكون دعوة إلى التفاوض .
فاقترح حذف هذا النص في لجنة المراجعة لعدم الحاجة إليه إذ يسهل على القضاء تطبيق هذا الحكم دون نص عليه فوافقت اللجنة على ذلك .
مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 41 في الهامش
( 2 ) وقد يكون السكوت تعبيرًا صريحًا عن القبول
( قارن حكما لمحكمة النقض ـ الدائرة المدنية ـ في 21 إبريل سنة 1949 مجموعة عمر 5 رقم 410 ص 760
وقد استخلصت المحكمة قبول المنذر إليه قبولا ضمنيا من سكوته عن الرد على ما تضمنه الإنذار ) . .
( 1 ) أما إذا استأجر العين من الواعد فهذا دليل على رفض الوعد بالبيع . وقد استخلصت محكمة النقض عدول الموعود بالبيع عن الشراء من طلبه من الواعد أن يؤجره أطيانا تشمل العين الموعود ببيعها .
( نقض مدني 6 يونيه سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 90 ص 188 ) .
ولم تر محكمة النقض أن تستخلص إيجابا ضمنيا بالهبة من أن المورث فتح حسابا خاصا في البنك لولديه أودع فيه باسمهما المبلغ المتنازع عليه
وقالت في هذا الصدد ما يأتي :
إذا كان كل ما قاله الحكم لإثبات الهبة أن المورث قد فتح حسابا خاصا في البنك لولديه أودع فيه باسمهما المبلغ المتنازع عليه وأنه فتتح هذا الحساب الخاص مع وجود حساب باسمه هو في ذات البنك ، فهذا الذي قاله الحكم ليس فيه ما يدل على صدور إيجاب بالهبة من المورث لأن نية الهبة لا تفترض ، وفعل الإيداع ليس من شأنه بمجرده أن يقيدها إذ هو يحتمل احتمالات لا يرجح أحدها إلا بمرجح.
( نقض مدني 8 أبريل سنة 1948 مجموعة عمر 5 رقم 298 ص 590 ) .
( 2 ) وقد لا يصل المشرع إلى حد أن يتطلب تعبيرًا صريحًا ، ولكنه يتطلب مثلا اتفاقا خاصًا ( أنظر م 309 و م 445 و م 781 ) ، أو ينص على أن الإرادة لا نفترض ( أنظر 279 و م 354 و م 360 )
أو يستوجب أن يكون تغير الإرادة تفسيرًا ضيقًا ( أنظر م 555 ) وفي جميع هذه الأحوال لا يشترط التعبير الصريح ، ولكن تجب الحيطة والتشدد في استخلاص التعبير الضمني .
( 1 ) أنظر آنفا فقرة 48 في الهامش .
( 2 ) وقد جرى القضاء المصري على الاعتداد بالتعبير الضمني عن الإرادة كما يعتد بالتعبير الصريح ( استئناف مختلط في 13 فبراير سنة 1896 م 8 ص 118 ـ وفي 12 مارس سنة 1930 م 42 ص 352 ) . وذهب كذلك إلى أن مسلكا معينًا أو ضربًا من ضروب التصرف قد يعتبر إفصاحًا عن الإرادة ( استئناف مختلط في 16 مايو سنة 1929 م 41 ص 401 ) .
( 3 ) بعض المراجع الرئيسية :
سالي في الإعلان عن الإرادة ـ بنكاز تكملة بودري جزء 2 ـ ديموج في الالتزامات جزء أول ـ بلانيول وريبير وإسمان جزء أول ـ ديريه ( Dereux ) رسالة في تفسير الأعمال القانونية سنة 1905 ، وانظر أيضًا مقالا له في المجلة الانتقادية سنة 1901 ـ مقال الأستاذ مينال ( Meynial ) في الإعلان عن الإرادة في مجلة القانون المدني الفصيلة سنة 1902 ص 545 ـ ص 573 ـ مقال الأستاذ هوريو ( Hauriou ) .
والأستاذ جيليوم دي بيزان ( Guillaume de Bezin ) في الإعلان عن الإرادة في القانون الإداري الفرنسي في مجلة القانون المدني الفصلية سنة 1913 ص 543 ـ 586 ـ نظرية العقد للمؤلف ص 150 وما بعدها ـ أصول الالتزامات للدكتور حلمي بهجت بدوي بك ص 82 وما بعدها ـ نظرية الالتزام للدكتور أحمد حشمت أبو ستيت بك ص 70 وما بعدها .
( 1 ) وقد تأثر القانون الألماني بالفقه الألماني ، فأخذ إلى حد كبير بنظرية الإرادة الظاهرة وطبق القانون الإنجليزي هذه النظرية في كثير من الفروض ( أنظر جنكس م 77 : إذا استعمل شخص طرقا للتعبير عن إرادته بحيث يكون من المعقول تبعًا للظروف أن يفهم منها معنى معين ، فلا يجوز له أن ينكر هذا المعنى في مواجهة شخص تصرف عن حسن نية تصرفا يتلاءم مع هذا المعنى . وانظر أيضًا بولوك في العقد طبعة تاسعة ص 5 ـ ص 6 ـ وولتن في العقد جزء أولى فقرة 94 ) .
أما الشريعة الإٍسلامية فلو أن القاعدة فيها أن العبرة بالمعاني أي بالإرادة الحقيقية للمتعاقدين ، إلا أن الفقهاء في كثير من الفروض يقفون عند المعاني الظاهرة من الألفاظ التي استعملها المتعاقدان ، فلا يتعدونها إلى المعاني الكامنة في السريرة .
ولعل هذا يفسر تحليلهم الدقيق لبعض العبارات والألفاظ ، ووقوفهم طويلا عند شرح ما تتضمنه هذه العبارات من المعاني ، وما يستتبعه اختلاف التعبير من اختلاف الأحكام فليس هذا منهم في رأينا استمسكا باللفظ ، بل هو تغليب للإرادة الظاهرة على الإرادة الباطنة . هذه إلى أن هناك ثلاثًا جدهن جد وهزلهن جد ، أي أن الإرادة الظاهرة تتغلب فيها حما على الإرادة الباطنة ، وهي الزواج والطلاق والعتاق
( التلويح والتوضيح جزء 2 ص 787 ـ 789 ) .
( 1 ) ذلك أن أنصار الإرادة الظاهرة لا يغفلون الإرادة الباطنة على نحو مطلق . فهم يشترطون أن يكون وراء مظهر التعبير إرادة كامنة ، ولكن هذه الإرادة تكون مقصورة على أن يقصد بالإرادة الظاهرة أن تتخذ مظهرها الخارجي لتحدث أثرها القانوني ( Volonte de declarer ) فمن يعبر عن إرادته بالكتابة لا يقصد بهذه الإرادة المكتوبة أن تتخذ مظهرها الخارجي في الكتابة لتحدث أثرها القانوني إلا وقت أن يوقع على هذه الكتابة
بل هو في الغالب لا يقصد ذلك إلا بعد أن يسلم الورقة المكتوبة ، أو بعد أن يقوم بتصديرها . ويترتب على ذلك أن أفعال الطفل أو المجنون لا يصح أن تؤخذ مظهرًا ماديا يعتد به في التعبير عن الإرادة ، لأن إرادة الطفل أو المجنون معدومة ، فلا يصح أن يقال إنه قصد أن تتخذ إرادته هذا المظهر الخارجي لتحدث أثرها القانوني ( أنظر المادتين 127 و 128 من المشروع التمهيدي وقد مر ذكرهما.
وانظر في هذا المعنى فون تور Von Tuhr ص 132 ـ سالي في إعلان الإرادة ص 2 ـ رسالة الدكتور الشيني المقدمة لمعهد القانون المقارن بجامعة باريس في تكوين العقد وتفسيره في القانون المدني المصري الجديد ص 64 هامش رقم 3 ) .
ولا بد من وجود الإرادة الظاهرة وجودًا حقيقيًا ، فالإرادة المكتوبة لا وجود لها إذا كانت مزورة ، أما إذا لم تكن مزورة فهي موجودة حتى لو وجهت إلى غير الشخص المقصود ، بأن وجهت خطأ إلى شخص آخر يحمل اسم الشخص المقصود ( فون تور von tuhr ص 136 ـ رسالة الدكتور الشيني المشار إليها ص 84 فقرة 75 ) .
هذا والنتائج العملية للتمييز بين مبدأي الإرادة الباطنة والإرادة الظاهرة محدودة ، وهو لا تظهر إلا إذا أمكن تقديم دليل على أن الإرادة الظاهرة تختلف عن الإرادة الباطنة ، وقاما يستطاع إثبات ذلك ، وفي الأحوال القليلة التي يمكن فيها تقديم هذا الدليل بتقارب المبدآن من ناحية أخرى . ذلك أن مبدأ الإرادة الباطنة لا يترك المظهر الخارجي الخاطئ دون جزاء ، بل يرتب عليه الحق في التعويض ، على أساس المسئولية التقصيرية ، لمن اطمأن لهذا المظهر حماية للثقة المشروعة .
ومهما يكن من الأمر فلا يزال هناك فرق بين المبدأين لا يجوز إغفاله ، فنظرية الإرادة الظاهرة تنظر إلى الإرادة باعتبارها ظاهرة اجتماعية . أما نظرية لإرادة الباطنة فتنظر إلى الإرادة باعتبارها ظاهرة نفسية . وهذا الفارق يترتب عليه نتيجتان عمليتان :
( 1 ) عند تفسير العقد إذا أخذا لقاضي بمبدأ الإرادة الظاهرة فهو لا يكون ملزمًا أن يتحسس الإرادة الداخلية فيما تجته سريرة المتعاقدين ، بل هو يقف عند المظهر الخارجي للتعبير عن الإرادة ، فيفسره تفسيرًا اجتماعيًا لا نفسيًا ، مستندًا في ذلك إلى العرف الجاري وإلى المألوف في التعامل .
( 2 ) إذا أخذ القاضي بمبدأ الإرادة الظاهرة فإن مسألة تفسير العقد تصبح مسألة قانون تخضع لرقابة محكمة النقض ما دام الغرض ليس هو تفسير نية المتعاقدين بل تفسير نص العقد ، فيكون حكم ذلك حك تفسير نص القانون . أما إذا كان التفسير يتجه إلى بحث الإرادة الباطنة ، فهذه مسألة واقع لقاضي الموضوع فيها الرأي الأعلى ، وسنتناول هذه المسألة بتفصيل أوفى عند الكلام في تفسير العقد .
( 1 ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المشروع التمهيدي ( م 125 ) على الوجه الآتي :
1 ـ ينتج التعبير عن الإرادة أثره في الوقت الذي يصل فيه إلى من وجه إليه بحيث يتمن هذا من العلم به . ولا يكون له أثر إذا وصل عدول عنه إلى من وجه إليه التعبير عن الإرادة قبل أن يصل إليه هذا التعبير أو في الوقت الذي وصل إليه فيه
2 ـ إذا وصل عدول بعد وصول التعبير عن الإرادة ، وكان قد صدر بحيث كن يصل في الظروف المعتادة ، قبل وصول التعبير عن الإرادة ، وكان قد صدر بحيث كان يصل ، في الظروف المعتادة ، قبل وصول التعبير عن الإرادة أوفي الوقت ذاته ، فيجب على من وجه إليه العدول أن يخطر الطرف الأخر فورًا بهذا التأخر ،فإذا تهاون في الإخطار اعتبر وصول العدول في وقت غير متأخر .
ولما تلى النص في لجنة المراجعة ، اقترح حذف الجزء الثاني من الفقرة الأولى لعدم الحاجة إليه ، وكذلك الفقرة الثانية جميعها لأنها تقرر حكا تفصيليا لا يحسن أن يقرر بنص تشرعي ، فوافقت اللجنة على ذلك . ثم ناقشت الجزء الباقي من المدة ، واستقر الرأي على أن التعبير عن الإرادة ينتج أثره بالعلم .
ولكن لما كان العلم أمرًا متعذر الإثبات فيحسن أن يؤخذ الوصول قرينة عليه لأنه أكثر انضباطًا . على أن تكون هذه القرينة قابلة لإثبات العكس والطرف الذي وجه إليه التعبير عن الإرادة هو الذي يتحمل عبء إثبات العكس .
وأصبحت المادة في صيغتها النهائية ( م 93 من المشروع النهائي ) كما يأتي :
ينتج التعبير عن الإرادة أثره في الوقت لذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه ، ويعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به إلا أن يقام الدليل على عكس ك.
وقد وافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 93 ثم عرضت على لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، فرأت الأغلبية حذفها ، ثم أعادت اللجنة النظر فيها فأقرت بقاءها ، وأصبح رقمها 91 . ووافق مجلس الشيوخ عليها بعد ذلك.
( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 19 ـ ص 28 ) .
ونذكر هنا أن القانون المدني السوري الجديد الذي صدر بعد القانون المدني المصري الجديد بزمن قليل ـ وعين لنفاذة تاريخ سابق على التاريخ الذي عين لنفاذ القانون المصري نفسه ـ سار على نهج القانون المصري في الغالبية العظمى من نصوصه وأحكامه .
ومن الفروق النادرة ما بين القانونين أن القانون السوري لم ينقل عن القانون المصري نص المادة 91 . ويبدو أنه أراد بذلك أن يجعل التعبير عن الإرادة لا يتأخر إنتاجه لأثره إلى الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه . ويعزز هذا التفسير أنه جعل التعاقد فيما بين الغائبين يتم في المكان الذي صدر فيه القبول ( م 98 من القانون السوري ) لا في المكان الذي علم فيه الموجب بالقبول ( م 97 من القانون المصري ) . وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام في التعاقد ما بين الغائبين .
( 1 ) لم تورد المذكرة الإيضاحية للمادة 125 من المشروع التمهيدي ( وهي المقابلة للمادة 91 من القانون الجديد ) الأمر على النحو الذي بيناه في المتن . فهي قد بنت إنتاج التعبير لأثره عند وصوله إلى علم من وجه إليه على فكرة أن الإيجاب ملزم بوجه عام ، فقبل العلم يكون الإيجاب موجودًا وجودًا فعليا ووجودًا قانونيًا ولكن يجوز الرجوع فيه إلى وقت العلم ، ومنذ هذا ا لوقت يكون ملزمًا لا يجوز الرجوع فيه
وكان هذا النظر يتمشى مع المشروع التمهيدي الذي جعل الإيجاب ملزمًا ( م 129 من هذا المشروع ) . وهذا ما ورد في المذكرة الإيضاحية في صدد المادة 125 من المشروع التمهيدي :
تتناول هذه المادة تعيين الوقت الذي يصبح فيه التعبير عن الإرادة نهائيًا لا يجوز العدول عنه ( اقرأ : الرجوع فيه ) . فمن الواجب التمييز بين وجود التعبير ، وهذا الوجود يتحقق وقت صدوره إذ يصبح عملا قانونيًا قائمًا لا يتأثر وجوده بوفاة من صدر منه أو يفقد أهليته ، وبين استكمال هذا التعبير لحكمه وتوفر صفة اللزوم له تفريعًا على ذلك ، وهذا لا يتحقق إلا في الوقت الذي يصل فيه التعبير إلى من وجه إليه.
( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 19 ـ ص 20 ) .
ولما كان المشروع النهائي ، ومعه القانون الجديد ، قد عدل عن جعل الإيجاب ملزمًا بوجه عام ، فحذف المادة 129 من المشروع التمهيدي ، كان من الواجب أن يدخل تعديل في الاعتبارات التي من أجلها لا ينتج التعبير أثره إلا من وقت العلم به ، على النحو المبسوط في المتن .
( 1 ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 126 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي :
لا يؤثر في صحة التعبير عن الإرادة أن يكون من صدر منه أو من وجه إليه هذا التعبير قد مات أو فقد أهليته ، ما لم يتبين العكس من إرادة الطرفين أو من طبيعة التعامل
ولما عرض النص على لجنة المراجعة دارت مناقشة طويلة حوله وكان هناك من يرى أن التعبير يسقط إذا مات صاحبه أو فقد أهليته قبل العلم به . وبعد المناقشة جعل هذا الحكم مقصورًا على موت من وجه إليه التعبير أو فقده لأهليته . وانتهت المناقشة إلى تعديل النص على الوجه الذي استقر في القانون الجديد .
وأصبح رقم المادة 94 في المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 94 . وكذلك وافقت لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ على النص تحت رقم 92 ، وجاء في تقريرها ما يأتي :
اقترح الاستعاضة عن المادة 92 بالنص الاتي :
ينقض التعبير عن الإرادة بموت صاحبه أو بفقد أهليته قبل أن يتصل التعبير بعلم من وجه إليه ، لأن نص المشروع في هذه المسألة يخالف المستقر والمألوف في صمر وفرنسا ، ولأنه قد يفضي إلى الإضرار بورثه المتوفى أو فاقد الأهلية ، إذ قد لا يتير للورثة أو ممثل فاقد الأهلية الإحاطة في الوقت المناسب بتصرفات من عبر عن الإرادة
ولم تر اللجنة الأخذ بهذا الاقتراح لأن التعبير عن الإرادة متى صدر صريحًا ارتبطت به مصالح لا يجوز إهدارها بسبب حادث طارئ هو موت من صدر منه هذا التعبير أو فقده لأهليته ، ولا يبقى بعد ذلك من سند للاقتراح إلا الإبقاء على المألوف .
ولكن اللجنة راعت أن هذا المألوف لا يستند إلى أساس ففهي أو منطق سليم ، بل الفقه والمنطق يقضيان بالاعتراض للتعبير عن الإرادة بكيان ذاتي ، ومثل هذا الوضع أكثر ضمانًا لاستقرار المعاملات وحماية المصالح ط . وقد وافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها اللجنة .
( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 29 ص 35 )
( 1 ) هذا ولو اعتبرنا الإيجاب ملزمًا كما كان الأمر في المشروع التمهيدي ، لأمكن القول أيضًا بتمام العقد في الفرض الآتي : شخص في مصر كتب لآخر في فرنسا يعرض عليه صفقة ، ومات الموجب قبل أن يصل الكتاب إلى الطرف الآخر ، ولم يكن هذا عند وصول الكتاب إليه بعلم بموت الموجب ، فقبل الصفقة .
والسبب في أن الصفقة لا تتم في هذا الفرض إذا لم تعتبر الإيجاب ملزمًا هو أن القبول لا يصل إلى الموجب إلا بعد موته ومن ثم فلا ينتج أثره .
أما إذا اعتبرنا الإيجاب ملزمًا ومات الموجب ، فإن التزامه بالبقاء على إيجابه ينتقل إلى ورثته فإذا وصلهم القبول أنتج أثره وعلى هذا الأساس الأخير سارت المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي إذ كان الإيجاب ملزمًا في هذا المشروع .
( 1 ) ولما كان القانون الجديد قد استحدث هذا الحكم ، فلا يكون له أثر رجعي . فلو أن القابل مات أو فقد أهليته قبل نفاذ القانون الجديد ( أي قبل 15 أكتوبر سنة 1949 ) ، فإن قبوله يسقط بالموت أو يفقد الأهلية طبقًا للقانون القديم . لكن إذا صدر القبول قبل نفاذ القانون الجديد ومات القابل أو فقد أهليته بعد نفاذه ، فإن القبول لا يسقط بالموت أو فقد الأهلية طبقًا للقانون الجديد ، وذلك تطبيقًا لنظرية الأثر الفوري ( effet immediate ) .
( 1 ) وقد سارت المذكرة الإيضاحية للمادة 126 من المشروع التمهيدي ( وهي التي تقابل المادة 92 من القانون الجديد ) على الأساس الذي سارت عليه في المادة السابقة ، فاعتبرت أن عدم سقوط التعبير للموت أو فقد الأهلية إنما جاء نتيجة منطقية لكون الإيجاب ملزمًا ، فورد في هذا الصدد ما يأتي : يقضى النص بأن التعبير عن الإرادة لا يسقط بموت من صدر منه أو بفقد أهليته
هذا الحكم ليس إلا نتيجة منطقية للزوم التعبير عن الإرادة . فالالتزام بالإبقاء على التعبير ، أو بعبارة أدق بالارتباط به ، يظل قائمًا بعد الموت أو فقد الأهلية ، شأنه في ذلك شأن أي التزام آخر . فإذا كان التعبير عن الإرادة إيجابًا وفقد الموجب أهليته قبل صدور القبول ، وجه القبول بداهة إلى نائبه لا إلى شخصه ” .
وهذا التعليل إذا صلح في قانون يعتبر الإيجاب ملزمًا بموجه عام كما كان الأمر في المشروع التمهيدي ، فهو لا يصلح تعليلا في قانون لا يعتبر الإيجاب ملزما إلا في حالات خاصة . على أن المذكرة الإيضاحية سارت إلى مدى أبعد في تقرير عدم سقوط التعبير بالموت أو فقد الأهلية حتى لو لم يكن التعبير ملزما ، إذا قالت : ” ووجود التعبير ، حتى قبل أن يصبح لازما لا يتأثر هو أيضًا بالموت أو بفقد الأهلية
وغنى عن البيان أن حق العدول ينتقل إلى ورثة الشخص أو ممثليه إذا حدثت الوفاة أو طرأ فقد الأهلية قبل وصول التعبير.
وهذه الفقرة من المذكرة الإيضاحية تصلح تفسيرًا صحيحًا للقانون الجديد ، ويضاف إليها أن حق الرجوع في الإيجاب ينتقل هو أيضًا إلى ورثة الشخص أو ممثليه إذا حدثت الوفاة أو طرأ فقد الأهلية بعد وصول التعبير ، وذل كفي الحالات التي لا يكون فيها الإيجاب ملزمًا
( أنظر في كل ذلك مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 31 ) .
( 2 ) وكان المشروع التمهيدي ( م 126 ) يقرر غير ذلك ، على الوجه الذي بيناه فيما تقدم ولكن المشروع النهائي عدل النص على الوجه الذي رأيناه في القانون الجديد كما أسلفنا القول وقد كان القانون القديم يستثنى عقد الهبة من المبدأ القاضي بأن موت من وجه إليه التعبير أو فقده لأهليته بسقط التعبير ، فكانت المادتان 51 / 73 من هذا القانون تنصان على أنه:
يسوغ أن يحصل قبول الهبة من ورثة الموهوب له إذا كان قد توفى قبل القبول ، وفي حالة الهبة لمن ليس أهلاً للقبول يصح قبولها من يقوم مقامه ولم يرد لهذا النص القديم مقابل في القانون الجديد ، فلا يؤخذ الآن بهذا الحكم الاستثنائي إذ لا نص عليه.
هذا ، ويجب التمييز بين المبدأين أخذ بهما القانون الجديد ، فهو من جهة قرر أن التعبير عن الإرادة لا يسقط بموت صاحبه . وهو من جهة أخرى قرر أن هذا التعبير لا ينتج أثره إلا إذا وصل إلى علم من وجه إليه .
ولكل من هذين المبدأ نطاقه الخاص . ويترتب على الجمع بينهما ما يأتي :
( 1 ) إذا صدر تعبير من الموجب ، ومات هذا قبل أن يصل الإيجاب إلى علم الطرف الآخر ، فإن التعبير يبقى قائما ولهذا الطرف الآخر أن يقبل الإيجاب ولكن هذا القبول لا ينتج أثره إلا إذا وصل هو أيضًا إلى علم الموجب ، وهذا قد مات فلا يتم العقد
( 2 ) إذا صدر قبول من الطرف الآخر ومات هذا ، بقى قبوله قائمًا ، ومتى وصل إلى علم الموجب تم العقد . لكن إذا مات الموجب قبل أن يصل القبول إلى عامه ، فإن القبول لا ينتج أثره ولا يتم العقد .
ماهية توافق الإرادتين والقبول في العقود
التمييز بين حالتين :
لم يعرض القانون القديم بنص إلى هذا الموضوع الذي يعد من أدق موضوعات العقد ، بل ترك الأمر فيه للفقه والقضاء . وهذا بخلاف التقنينات الحديثة كالتقنين الألماني وتقنين الالتزامات السويسري والمشروع الفرنسي الإيطالي ، فقد ورد فيها نصوص على جانب عظيم من الأهمية ، نسج على موالها القانون الجديد .
وهي تبين كيف يصدر الإيجاب ومتى يكون ملزماً ، والى أي وقت ، وكيف يقترن به القبول ، سواء أكان المتعاقدان حاضرين مجلس العقد أم كانا غير موجودين في مجلس واحد .
ونستعرض كلا من هاتين الحالتين :
- ( 1 ) حالة ما إذا ضم المتعاقدين مجلس واحد
- ( 2 ) وحالة التعاقد فيما بين الغائبين
المتعاقدان في مجلس واحد – الإرادة فى العقد كركن هام من أركانه
الإيجاب والقبول :
تقدم أنه لا يد لتمام العقد من صدور إيجاب من أي من المتعاقدين ح يعقبه قبول مطابق له من المتعاقد الآخر .
فنتكلم في مسائل ثلاث :
- ( أولاً ) صدور الإيجاب )
- ثانياً ) اقترانه بالقبول
- ( ثالثاً ) حالات خاصة في القبول .
1- صدور الإيجاب – الإرادة فى العقد كركن هام من أركانه
المراحل التي يمر بها الإيجاب :
المفاوضات :
من يصدر منه الإيجاب لا يستقر به الرأي في العادة على أن يصدر إيجاباً باتاً إلا بعد مفاوضات ( ) قد تطول . ويعتبر من قبل المفاوضات أن يعرض شخص التعاقد دون أن يحدد أركانه . كان يضع إعلاناً ينبئ أنه يعرض منزلا للبيع أو للإيجار دون أن يذكر الثمن أو الأجرة . وإذا كانت شخصية المتعاقد محل اعتبار ، فلا يعد إيجاباً بل تفاوضاً أن يعرض شخص التعاقد حتى لو بين أركان العقد ، أما إذا لم يكن هناك اعتبار لشخصية المتعاقد عد هذا إيجاباً .
وكان المشروع التمهيدي يشتمل على نص ( م 134 ) يقي بأن عرض البضائع مع بيان ثمنها يعتبر إيجاباً ، أما النشر والإعلان وبيان الأسعار الجاري التعامل بها وكل بيان آخر متعلق بعروض أو طلبات موجهة للجمهور أو للأفراد فلا يعتبر عند الشك إيجاباً وإنما يكون دعوة إلى التفاوض ( ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه لا يعد إيجاباً باتاً ، بل يكون من قبيل المفاوضات ، أن يعرض شخص على آخر القيام بعمل دون أن يتضمن العرض الشروط والتفاصيل اللازمة ( ) .
والقانون لا يرتب في الأصل على هذه المفاوضات أثراً قانونياً ، فكل متفاوض حر في قطع المفاوضة في الوقت الذي يريد . ولا مسئولية على من عدل ، بل هو لا يكلف إثبات أنه قد عدل لسبب جدى . وليست المفاوضات إلا عملا مادياً لا يلزم أحداً . لذلك لا يعد السمسار نائباً لأنه إنما يمهد للمفاوضات وهي عمل مادي لا عمل قانوني .
على أن العدول عن المفاوضات قد يرتب مسئولية على من قطعها إذا اقترن العدول بخطأ منه . ولكن المسئولية هنا ليست مسئولية تعاقدية مبنية على العدول بل هي مسئولية تقصيرية مبنية على الخطأ . والمكلف بإثبات الخطأ هو الطرف الآخر الذي أصابه ضرر من العدول ، فإذا اثبت مثلا أن من قطع المفاوضات لم يكن جاداً عند الدخول فيها ، أو كان جادا ولكن لم يخطره بالعدول في الوقت المناسب ، وأنبني على ذلك أن فاتته صفقة رابحة ، كان له الحق في المطالبة بتعويض .
الإيجاب المعلق
وقد تنتهي المفاوضات إلى إيجاب معلق ، كأن يعرض شخص التعاقد بثمن معين مع الاحتفاظ بتعديل هذا الثمن طبقا لتغير الأسعار ، فيكون الإيجاب الذي صدر منه بالثمن الذي عينه معلقاً على شرط عدم تغير الأسعار ، أو أن يعرض شخص على الجمهور شيئاً ذا كمية محدودة يعين ثمنه فيتم العقد مع من قبل أولاً وتراعى الأسبقية في القبول حتى ينفد الشيء . ومن هذا يتبين أن الإيجاب المعلق هو إيجاب لا مفاوضة ، ولكنه إيجاب لا ينفذ إلا إذا تحقق الشرط الذي علق عليه .
الإيجاب البات
فإذا خرج الإيجاب من دور المفاوضة ومن دور التعليق أصبح إيجاباً باتاً . وتقرير ما إذا كان الإيجاب قد وصل إلى هذا الدور النهائي هو من مسائل الواقع لا من مسائل القانون . فينفصل فيه قاضي الموضوع طبقا لظروف كل قضية ولا معقب على حكمة .
القوة الملزمة للإيجاب
في القانون القديم : لم يرد في القانون القديم نص يبين ما إذا كان الموجب يبقى ملزماً بالبقاء على إيجابه المدة الكافية لاقتران القبول بالإيجاب . فكان القضاء يذهب إلى أن للموجب أن يعدل عن إيجابه ما دام الإيجاب لم يقترن بالقبول ولكنه
مع ذلك ذهب إلى أن الإيجاب المقرون بأجل يلزم الموجب بالبقاء على إيجابه طول هذا الأجل ، سواء حدد الأجل صراحة أو ضمناً ، وبنى هذا لا على أساس الإرادة المنفردة بل على أساس أن هناك عقداً تم بين الموجب والموجب له يلزم الأول بألا يعدل عن إيجابه المدة المحددة ، وقد تم هذا العقد بقبول ضمني من الموجب له أو بسكوته لأن هذا الأجل في مصلحته
وذهب القضاء أيضاً إلى أن عدول الموجب عن إيجابه في وقت غير مناسب قد يجعل للموجب له حقاً في التعويض على أساس المسئولية التقصيرية
أما الفقه فكان يقول أيضاً مع القضاء بأن الإيجاب يلزم مدة الأجل ، ولكنه كان يتقلب في تفسير هذه القوة الملزمة بين هذه النظريات الثلاث :
- نظرية الإرادة المنفردة .
- نظرية العقد الضمني .
- نظرية المسئولية التقصيرية .
في القانون الجديد
أتى القانون الجديد فأقر الوضع على أساس نص تشريعي . فقضت المادة 93 بما يأتي :
1- إذا عين ميعاد للقبول التزم الموجب بالبقاء على إيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد
2 – وقد يستخلص الميعاد من ظروف الحال أو من طبيعة المعاملة .
فالإيجاب المقترن بميعاد للقبول ملزم للموجب طبقا لنص القانون الجديد . ولم نعد بعد هذا النص في حاجة إلى البحث عن الأساس الذي تقوم عليه هذه القوة الملزمة ، فالنص صريح في أن الإيجاب وحده هو الملزم ، أي أن الإلزام يقوم على الإرادة المنفردة طبقا لنص القانون ، وهذه هي إحدى الحالات التي نص القانون الجديد على أن الإرادة المنفردة تكون فيها مصدراً للالتزام .
ويكون تحديد الميعاد الذي يبقى فيه الإيجاب ملزماً صريحاً في الغالب . ولكن يقع أحياناً أن يستفاد هذا التحديد ضمنا من ظروف التعامل أو من طبيعته . فإذا عرض مالك آلة أن يبيعها تحت شرط التجربة ، فمن الميسور أن يستفاد من ذلك أنه يقصد الارتباط بإيجابه طوال المدة اللازمة للتجربة .
وعند النزاع في تحديد الميعاد يترك التقدير للقاضي . وإذا صدر الإيجاب لغائب دون أن يحدد ميعاد للقبول ، فإن الموجب يبقى ملتزماً إلى الوقت الذي يتسع لوصول قبل يكون قد صدر في وقت مناسب وبالطريق المعتاد ، وله أن يفرض أن إيجابه قد وصل غير متأخر
فهنا أيضاً يوجد ميعاد ضمني ، إذ قضت طبيعة المعاملة ، والإيجاب قد صدر لغائب ، أن يتربص الموجب مستبقا إيجابه إلى أن ينقضي الميعاد الذي يتسع عادة لوصول القبول إليه فيما لو كان الموجب له قد أرسل هذا القبول دون إبطاء لا تبرره الظروف ومع افتراض أن الإيجاب قد وصل في الميعاد المقدر لوصوله .
ويبقى الموجب ملتزماً بالبقاء على إيجابه المدة التي حددها ، وما لم يكن إيجابه قد سقط برفض الطرف الآخر له قبل انقضاء هذه المادة كما سيأتي .
أما إذا لم يحدد الموجب أية مدة للقبول ، فإن إيجابه يبقى قائما ، ولكنه لا يكون ملزما ، بل يجوز له الرجوع فيه أي وقت شاء ما دام أنه لم يقترن بالقبول .
ومن ثم نتبين أن الإيجاب قد يكون قائما ملزما ، وقد يكون قائما غير ملزم ، فالقيام غير الإلزام ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .
سقوط الإيجاب
الإيجاب القائم الملزم : فإذا كان الإيجاب قائماً ملزماً فإنه يسقط في حالتين :
- ( الحالة الأولى ) هي أن يرفض الموجب له الإيجاب ، فيسقط حتى لو لم تنقض المدة التي يكون فيها ملزماً ، ويتخذ رفض الإيجاب صوراً مختلفة ، فهو تارة يكون رفضاً محضاً ، وطوراً يكون قبولا يتضمن تعديلا في الإيجاب ( م 96 وسيأتي ذكرها ) ، وثالثة يكون إيجاباً جديداً يعارض الإيجاب الأول .
- ( الحالة الثانية ) هي أن تنقضي المدة التي يكون فيها الإيجاب ملزماً ، فيسقط ، وينتهي الإلزام والقيام في وقت واحد . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي :
يظل الموجب مرتباً بإيجابه في خلال الميعاد المحدد للقبول متى حدد له ميعاد ، سواء في ذلك أن يصدر الإيجاب لغائب أو لحاضر . فإذا انقضى الميعاد ولم يصل القبول ، فلا يصبح الإيجاب غير لازم فحسب بعد أن فقد ما توافر له من الإلزام ، بل هو يسقط سقوطاً تاماً . وهذا هو التفسير المعقول لنية الموجب ، فهو يقصد ألا يبقى إيجابه قائماً إلا في خلال المدة المحددة ما دام قد لجأ إلى التحديد .
وقد يتصور بقاء الإيجاب قائماً بعد انقضاء الميعاد ولو أنه يصح غير لازم ، ولكن مثل هذا النظر يصعب تمشيه مع ما يغلب في حقيقة نية الموجب . ويراعى أن القول بسقوط الإيجاب عند انقضاء الميعاد يستتبع اعتبار القبول المتأخر بمثابة إيجاب جديد . وهذا هو الرأي الذي أخذ به المشروع في نص لا حق . وغنى عن البيان أن الإيجاب الملزم يتميز في كيانه عن الوعد بالتعاقد ، فالأول إرادة منفردة والثاني اتفاق إرادتين.
الإيجاب القائم غير الملزم
وإذا كان الإيجاب قائماً غير ملزم – وهذا لا يكون إلا في التعاقد ما بين حاضرين في مجلس العقد – فإنه يسقط أيضاً في حالتين :
- ( الحالة الأولى ) إذا عدل عنه الموجب قبل انفضاض مجلس العقد .
- ( الحالة الثانية ) إذا انفض مجلس العقد ولو لم يعدل عنه الموجب .
القبول بعد سقوط الإيجاب إيجاب جديد
وإذا سقط الإيجاب على النحو الذي قررناه فيما تقدم ، فكل قبول يأتي بعد ذلك يكون متأخراً ، ولا يعتد به على اعتبار أنه قبول لإيجاب سابق . ولكن يصح كما رأينا أن يكون هذا القبول المتأخر إيجاباً جديدا موجهاً لمن صدر منه الإيجاب الأول الذي سقط ، فإذا قبله هذا تم العقد .
نرى ذلك في حالة ما إذا رفض الإيجاب بقبول يتضمن تعديلا في الإيجاب أو بإيجاب جديد يعارض الإيجاب الأول . ونرى ذلك كما قدمنا في حالة ما إذا صدر قبول بعد انقضاء المدة التي يكون فيها الإيجاب ملزماً .
ونرى ذلك أيضاً في حالة ما إذا صدر قبول بعد عدول الموجب عن إيجابه . ونرى ذلك أخيراً في حالة ما إذا صدر قبول بعد انفضاض مجلس العقد . ففي هذه الحالات الأربع – وهي الحالات التي رأينا أن الإيجاب يسقط فيها – إذا صدر القبول بعد سقوط الإيجاب فلا يعتد به قبولا ، ولكنه يعدل إيجاباً جديداً .
ب – اقتران الإيجاب بالقبول
الميعاد الذي يصح فيه القبول – مدة قيام الإيجاب
يصح القبول ما دام الإيجاب قائما . وقد عددنا فيما تقدم الحالات التي يسقط فيها الإيجاب . ونستخلص منها أن الإيجاب المقترن بأجل للقبول صريح أو ضمني يبقى قائماً طول مدة الأجل ، سواء كان التعاقد بين حاضرين أو غائبين . فيجوز في أي وقت في خلال الأجل أن يصدر القبول فيقترن به الإيجاب .
أما إذا كان التعاقد بين حاضرين في مجلس واحد ، ولم يقترن الإيجاب بأجل للقبول ، فإن الإيجاب يبقى قائماً – ويجوز أن يقترن بالقبول – ما دام مجلس العقد لم ينفض . فإذا انفض سقط الإيجاب وامتنع .
مجلس العقد :
يبقى الآن أن نبين ما هو المقصود بمجلس العقد . جاء هذا التعبير في المادة 94 من القانون المدني الجديد ، وهذا نصها :
- إذا صدر الإيجاب في مجلس العقد ، دون أن يعين ميعاد القبول ، فان الموجب يتحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فورا ، وكذلك الحال إذا صدر الإيجاب عن شخص إلى آخر بطريق التليفون أو بأي طريق مماثل .
- ومع ذلك يتم العقد ، واو لم يصدر القبول فورا ، إذا لم يوجد ما يدل على أن الموجب قد عدل عن إيجابه في الفترة ما بين الإيجاب والقبول ، وكان القبول قد صدر قبل أن ينفض مجلس العقد .
وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي :
إن الإيجاب إذا وجه لشخص حاضر وجب أن يقبله من فوره . وينزل الإيجاب الصادر من شخص إلى آخر بالتليفون أو بأية وسيلة مماثلة منزلة الإيجاب الصادر إلى شخص حاضر . وقد اخذ المشروع في هذه الصورة عن المذهب الحنفي قاعدة حكيمة
فنص على أن العقد يتم ولو لم يحصل القبول فور الوقت إذا لم يصدر قبل افتراق المتعاقدين ما يفيد عدول الموجب عن إيجابه في الفترة التي تقع بين الإيجاب والقبول . وقد رؤى من المفيد أن يأخذ المشروع في هذه الحدود بنظرية الشريعة الإسلامية في اتحاد مجلس العقد .
ويتبين من هذا أن الموجب له ، إذا اتحد مجلس العقد حقيقة أو حكماً ( كما في التعاقد بالتليفون أو بأي طريق مماثل ) ، يجب عليه كمبدأ عام أن يصدر قبوله فوراً بمجرد صدور الإيجاب ، فلا يفصل وقت ما بين الإيجاب والقبول . وهذا الوضع – وهو مأخوذ من القوانين الحديثة
يقتضي أن الإيجاب لا يكاد يقوم حتى يسقط ، وفي هذا من الضيق والحرج ما لا يخفى . فلطف القانون الجديد من حدة هذا الوضع بالالتجاء إلى الشريعة الإسلامية ، وجعل الإيجاب يبقى قائماً ما دام مجلس العقد لم ينقض . ومجلس العقد هو المكان الذي يضم المتعاقدين . وليس الملحوظ فيه هو المعنى المادي للمكان ، بل الملحوظ هو الوقت الذي يبقى فيه المتعاقدان منشغلين بالتعاقد دون أن يصرفهما عن ذلك شاغل آخر .
فإذا اجتمع شخصان في مجلس واحد ، واصدر احدهما إيجاباً للآخر ، فليس من الضروري أن يكون القبول فوراً ، بل يجوز أن يبقى الموجب له يتدبر الأمر شيئا من الوقت ، حتى إذا عقد العزم على القبول فعل ذلك . ويكون قبوله صحيحاً بشرطين :
- ( الشرط الأول ) أن يبقى كل من المتعاقدين منشغلا بالتعاقد . فإذا انصرف أي منهما إلى شيء غيره اعتبر مجلس العقد في انفض ، وسقط الإيجاب .
- و( الشرط الثاني ) أن يبقى الموجب على إيجابه ، فلا يرجع فيه أثناء المدة التي يبقى فيها مجلس العقد قائماً .
ولا شك في أن الوضع على هذا الأساس المستمد من الشريعة الإسلامية قد أصبح وضعاً عملياً معقولا ، ولم تعد الفورية في القبول لازمة ، بل يجوز فيه التراخي مدة معقولة لا ينشغل فيها المتعاقدان بغير العقد ويبقى فيها الموجب على إيجابه . وهذا هو ف ينظرنا خير تفسير لقواعد الفقه الإسلامي في مجلس العقد.
لا تحتيم في القبول :
متى قام الإيجاب ولم ينقض الميعاد الذي يصح فيه القبول ، فإن الموجب له يكون بالخيار بين قبول الإيجاب أو رفضه ولا يتحتم عليه أن يقبل ، وإلا قام العقد على الإيجاب وحده .
ومهما يكن من بداهة هذا الحكم ، فإن ظروفاً قد تجعل الموجب له ملزماً بالقبول . ويتحقق ذلك إذا كان هو الذي دعا الموجب إلى التعاقد معه . وقد كان المشروع التمهيدي يشتمل على نص في هذا المعنى حذف اكتفاء بتطبيق القواعد العامة ، فكانت المادة 136 من هذا المشروع تنص على أنه
يجوز لمن وجه إليه الإيجاب أن يرفضه ، ما لم يكن قد دعا إليه ، فلا يجوز له في هذه الحالة أن يرفض التعاقد إلا إذا استند إلى أسباب مشروعة.
والتطبيقات العملية لهذا النص كثيرة متنوعة . فهناك طوائف من الناس تستحث غيرها على الإيجاب وتدعوهم إليه ، كالتجار في النشرات والإعلانات وقوائم الأسعار التي يوجهونها إلى الجمهور ، وكأصحاب الفنادق والمطاعم يفتحون أبوابهم للطارق ، وكأرباب الصناعات يدعون العمال إلى العمل في صناعاتهم . فإذا استجيبت هذه الدعوة إلى التعاقد ،
كانت الاستجابة إيجاباً يمتاز عما عداه من ضروب الإيجاب بأن من وجه إليه لا يجوز له أن يرفضه لغير سبب مشروع . وقد عللت المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي هذا الحكم العادل بما يأتي :
وليس هذا الأثر القانوني إلا نتيجة للحالة التي أنشأها صاحب الدعوة ، بل وتطبيقا من تطبيقات مبدأ جامع هو مبدأ إساءة استعمال الحق أو التعسف في استعماله . على أن الإساءة في هذا الفرض ترد على مجرد رخصة من الرخص ، وهذه خصوصية تسترعى الانتباه .
وقد تعمد المشروع إغفال تعيين الجزاء الذي يترتب على الرفض التعسفي ، فمثل هذا الرفض يرتب مسئولية لا شك فيها . فيجوز أن يقتصر التعويض على مبلغ من المال إذا كان هذا الجزاء كافياً . ويجوز للقاضي في بعض الفروض أن يذهب إلى ما هو ابعد ، فيعتبر أن العقد قد تم على سبيل التعويض إذا كان في الظروف ما يوجب ذلك.
كيف يطابق القبول الإيجاب :
وإذا كان الموجب له لا يتحتم عليه القبول على النحو الذي قدمناه ، إلا أنه إذا اختار أن يقبل وجب أن يكون قبوله مطابقاً للإيجاب مطابقة تامة ، وان يكون متفقا كل الاتفاق مع الموجب في جميع المسائل التي تناولها الإيجاب .
وقد كان المشروع التمهيدي يشتمل على نص في هذا المعنى رؤى حذفه اكتفاء بتطبيق المبادئ العامة . فكانت المادة 137 من هذا المشروع تنص على أنه لا يتم العقد ما لم يتفق الطرفان على كل المسائل التي تفاوضا فيها بشأن هذا العقد . أما الاتفاق على بعض هذه المسائل فلا يكفي لالتزام الطرفين ، حتى لو اثبت هذا الاتفاق في ورقة مكتوبة .
على أنه ليس من الضروري لإبرام العقد أن يتم الاتفاق على جميع المسائل مسألة. فقد نصت المادة 95 من القانون الجديد على ما يأتي :
إذا اتفق الطرفان على جميع المسائل الجوهرية في العقد ، واحتفظا بمسائل تفصيلية عليها فيما بعد ولم يشترط أن العقد لا يتم عند عدم الاتفاق عليها ، اعتبر العقد قد تم . وإذا قام خلاف على المسائل التي لم يتم الاتفاق عليها ، فان المحكمة تقضي فيها طبقا لطبيعة المعاملة ولأحكام القانون والعرف والعدالة .
والذي يسترعي النظر في الحالة التي جاء فيها هذا النص هو أن المتعاقدين قد حددا مسائل لم يتم الاتفاق عليها واحتفظا بها لتكون محلا للاتفاق فيما بعد ، وبالرغم من إنهما لم يتفقا عليها بعد ذلك ، إلا أن العقد يعتبر قد تم . والذي يبرر هذا الحكم هو أن هذه المسائل ليست جوهرية في العقد
وان القانون قد افتراض أن نية المتعاقدين انصرفت إلى إبرام العقد حتى لو قام خلاف بينهما على هذه المسائل ، ما دام إنهما لم يشترطا أن العقد لا يتم عند عدم الاتفاق عليها . فتسيراً لنية المتعاقدين على هذا الوجه المعقول أباح القانون للقاضي أن يقضي فيما اختلفا فيه طبقا لطبيعة المعاملة ولأحكام القانون والعرف والعدالة . وهذا أيضاً أمر يسترعى النظر
فإن مهمة القاضي في هذه الحالة تخرج عن المألوف من عمله ، فهو لا يقتصر على تفسير ما اتفاق عليه المتعاقدان ، بل يجاوز ذلك إلى تدبير ما اختلفا فيه ، فهو إذن يساهم في صنع العقد.
ويوجه هذا الحكم فيما انطوى عليه من جرأة أنه ما دام المفروض أن المتعاقدين قد أرادا إبرام العقد ولو لم يتفقا على هذه المسائل غير الجوهرية ، استتبع ذلك أن نفرض أيضاً إنهما أراد أن يحل القاضي محلهما ليبت فيما اختلفا فيه ، لأن هذا هو السبيل الوحيد للملاءمة بين ما اتفقا عليه من إبرام العقد وما اختلفا فيه من المسائل . فإذا اتفق المؤجر والمستأجر مثلا على المسائل الجوهرية في عقد الإيجار
فتراضيا على العين المؤجرة والأجرة والمدة وسائر الشروط الجوهرية ، واختلفا فيمن يتحمل ضريبة الخفر أو أجرة البواب أو اشتراك المياه ، وهي عادة مبالغ زهيدة ، ولم يشترطا أن العقد لا يتم إلا إذا اتفقا أيضاً على هذه المسألة التفصيلية ، كان من المستساغ أن يفترض القانون أن المتعاقدين قد أرادا إبرام عقد الإيجار ، وإنهما تركا للقاضي أن يبت في هذه المسألة غير الجوهرية طبقا للعرف إذا لم يستبيعاهما أن يصلا فيها إلى اتفاق .
فالأمر إذن لا يعدو أن يكون تفسيرا لنية المتعاقدين ،بحيث لو قام دليل على أن نيتهما لم تنصرف إلى ذلك ، وإنهما لم يقصدا إبرام العقد إلا بعد الاتفاق الكامل حتى على هذه المسائل التفصيلية ، لوجب استبعاد النص ، ولنحتم على القاضي أن يقضي بأن عقد الإيجار لم يبرم ما دام أن المتعاقدين لم يتفقا على جميع المسائل التي تناولاها ، جوهرية كانت أو تفصيلية .
فالقبول إذن يجب أن يكون مطابقا للإيجاب على النحو الذي قدمناه . أما إذا كان غير مطابق له ، بل اختلف عنه زيادة أو نقصا أو تعديلا ، فإن العقد لا يتم ، ويعتبر مثل هذا القبول رفضاً يتضمن إيجاباً جديدا . فإذا طلب البائع ثمنا للمبيع ألفاً تدفع فوراً
وقبل المشتري أن يدفع الألف على أن يزيد البائع في المبيع ، أو قبل أن يدفع في المبيع وحده ثمانمائة ، أو قبل أن يدفع فيه وحده ألفاً ولكن بالتقسيط ، لم يتم البيع ، واعتبر هذا القبول إيجاباً جديداً من المشتري .
وهذا الحكم هو الذي تنص عليه المادة 96 من القانون الجديد إذ تقضي بما يأتي :
إذا اقترن القبول بما يزيد في الإيجاب أو يقيد منه أو يعدل فيه ، اعتبر رفضا يتضمن إيجاباً جديدا .
ج – حالات خاصة في القبول – الإرادة فى العقد كركن هام من أركانه
الحالة الأولى – مجرد السكوت قد يكون قبولا
المبدأ العام : لا محل للكلام في السكوت باعتباره معبراً عن الإيجاب ، فإنه لا يتصور أن يكون مجرد السكوت إيجاباً . ولكن هل يجوز أن يكون قبولا ؟
يمكن القول بوجه عام إن السكوت في ذاته ، مجرداً عن أي ظرف ملابس له ، لا يكون تعبيراً عن الإرادة ولو قبولا ، لأن الإرادة عمل ايجابي والسكوت شيء سلبي ، ويقول فقهاء الشريعة الإسلامية :
لا ينسب لساكت قول. وليس السكوت إرادة ضمنية ، فإن الإرادة الضمنية تستخلص من ظروف ايجابية تدل عليها كما سبق القول .
أما السكوت فهو العدم ، وأولى بالعدم أن تكون دلالته الرفض لا القبول . وهذا هو المبدأ العام ، يقول به الفقه والقضاء في مصر وفي غيرها من البلاد .
الاستثناء : على أن هذا المبدأ العام يقيد منه استثناءات اقرها القضاء المصري في ظل القانون القديم ، وأكدها القانون الجديد في نص صريح ، فقضت المادة 98 بما يأتي :
- إذا كانت طبيعة المعاملة أو العرف أو غير ذلك من الظروف تدل على أن الموجب لم يكن لينتظر تصريحا بالقبول ، فان العقد يعتبر قد تم ، إذا لم يرفض الإيجاب في وقت مناسب .
- ويعتبر السكوت عن الرد قبولا ، إذا كان هناك تعامل سبق بين المتعاقدين واتصل الإيجاب بهذا التعامل ، أو إذا تمخض إيجاب لمنفعة من وجه إليه .
فالاستثناء إذن هو أن يعتبر السكوت قبولا إذا أحاطت به ظروف ملابسة من شانها أن تجعله يدل على الرضاء .
هذه الظروف الملابسة ضرب لها القانون الجديد الأمثلة الآتية :
- ( 1 ) إذا كان العرف التجاري الذي جرى عليه العمل قضي بأن السكوت يدل على الرضاء ، كما إذا أرسل المصرف بيانا لعمليه عن حسابه في المصرف ، وذلك أن عدم الاعتراض على هذا البيان يعد إقراراً له ، أو كانت طبيعة المعاملة تقضي بذلك ، كما إذا أرسل التاجر البضاعة لمن طلبها وأضاف في الفاتورة شروط مستجدة سكت عنها المشتري ولم يبادر إلى رفضها.
- ( 2 ) إذا كان هناك تعامل سابق بين المتعاقدين كما إذا اعتاد عميل استيراد البضائع التي يريدها من تاجر بالكتابة إليه فيرسل له التاجر ما يريد دون أن يؤذنه بالقبول . فإذا طلب العميل شيئاً وظل التاجر ساكتاً كعادته كان للعميل أن يعتبر هذا السكوت رضاء وأن التاجر سيرسل له ما طلب كما عودة. وقد يكون هناك عقد سابق بين الطرفين ، فيستخلص السكوت قبولا إذا كان العقد الجديد من مكملات تنفيذ العقد السابق ، أو معدلا له ، أو فاسخاً .
- ( 3 ) إذا تمحض الإيجاب لمنفعة من وجه إليه وسكت هذا ، فيعتبر سكوته رضاء ، كالهبة التي لا تشترط فيها الرسمية تعرض على الموهوب له فيسكت ، وكعارية الاستعمال تعرض على المستعير فيلزم الصمت .
وليس فيما تقدم إلا امثله لم ترد على سبيل الحصر ، فكل سكوت تلازمه ملابسات تدل على الرضاء فهو سكوت ملابس ، ويعتبر قبولا ، كما إذا علم الموكل بمجاوزة الوكيل حدود الوكالة فإن سكوته إجازة ،
وكالمالك الحقيقي في بيع ملك الغير إذا علم بالبيع وسكت دون عذر كان سكوته إقراراً للبيع . في كل هذا لو كان الساكت أراد أن يعترض لتكلم ، ولكنه سكت في معرض الحاجة إلى الكلام ، ويقول فقهاء الشريعة الإسلامية هنا أيضاً : السكوت في معرض الحاجة بيان.
الحالة الثانية – تنفيذ العقد قد يقوم مقام القبول :
– يعتبر القضاء المصري أن التنفيذ الاختياري للإيجاب يقوم مقام القبول ، فيتم العقد به ، ويعتبر قبولا ضمنياً . أما الزمان والمكان اللذان يتم فيها العقد فيتبع في شأن تحديدهما القواعد العامة إذ لا يوجد نص خاص في ذلك . وتقضي القواعد العامة – على ما سنرى – أن العقد يتم وقت أن يعلم الموجب بهذا التنفيذ الاختياري وفي المكان الذي علم فيه ذلك ( م 97 ) ، ما لم يوجد اتفاق بين المتعاقدين يحدد وقتاً أو مكاناً آخر ، كأن يتضح من إرادة الموجب أنه قصد أن يتم العقد من وقت التنفيذ وفي مكانه فيقوم الموجب له بالتنفيذ وفقاً لهذه الإرادة .
وكانا لمشروع التمهيدي يشتمل على نص في هذه المسألة ، فكانت المادة 143 من هذا المشروع تقضي بأنه
إذا تبين من إرادة الموجب أو من طبيعة التعامل أو من مقتضى العرف أن تنفيذ العقد يقوم مقام القبول ، فإن العقد يعتبر قد تم في الزمان وفي المكان اللذين بدأ فيهما التنفيذ . ويجب في هذه الحالة المبادرة بإخطار الطرف الآخر ببدء التنفيذ. ولكن هذا النص حذف في المشروع النهائي ، حذفته لجنة المراجعة لأنه من التفصيلات التي لا ضرورة لها.
على أن النص لو استبقى لبقى وقت تمام العقد ومكانه محددين بحصول التنفيذ لا بعلم الموجب به متى اتضح ذلك ، لا من إرادة الموجب فحسب ، بل أيضاً من طبيعة التعامل أو من مقتضى العرف ، ولوجب على الموجب له أن يبادر بإخطار الموجب ببدء التنفيذ ، ولا يكون هذا الأخطار إلا إبلاغاً للقبول الضمني الذي صدر منذ أن وقع البدء بالتنفيذ .
الحالة الثالثة – القبول في عقود المزاد :
هناك عقود تتم في بعض الأحيان لا من طريق الممارسة ، بل من طريق المزايدة . واهم هذه العقود البيع والإيجار . فالبيع الجبري عن طريق القضاء أو عن طريق الإدارة يتم بالمزاد .
وكذلك البيوع التي تجريها المحاكم الحسبية . وقد يقع البيع الاختياري كذلك بطريق المزاد إذا اختار البائع هذا الطريق . وكثيرا ما تؤجر الجهات الحكومية ووزارة الأوقاف أراضي وعقارات بطريق المزاد . ويعنينا في العقود التي تتم بالمزايدة أن نعرف متى يتم الإيجاب ومتى يتم القبول . فقد بظن أن طرح الصفقة في المزاد هو الإيجاب ، والتقدم بالعطاء هو القبول . وليس هذا صحيحاً .
فإن طرح الصفقة في المزاد لا يعدو أن يكون دعوة إلى التعاقد عن طريق التقدم بعطاء ، والتقدم بعطاء هو الإيجاب . أما القبول فلا يتم إلا برسو الم 1زاد ، ويكون هو إرساء المزاد على من يرسو عليه . وهذا هو الذي جرى عليه القضاء المصري في ظل القانون القديم ، فقد كان يعتبر التقدم بالعطاء إيجاباً لا قبولا ، ويرتب على ذلك جواز الرجوع فيه قبل إرساء المزاد).
وأكد هذا المبدأ القانون الجديد بنص صريح . فقضت المادة 99 بما يأتي :
لا يتم العقد في المزايدات إلا برسوم المزاد ، ويسقط العطاء بعطاء يزيد عليه ولو كان باطلا .
والعطاء يكون باطلا إذا صدر مثلا من شخص لا يجوز له التعاقد في الصفقة المطروحة في المزاد ، كقاض يتقدم بعطاء في مزاد لبيع عين متنازع عليها إذا كان نظر النزاع يقع في اختصاصه . ويكون قابلا للإبطال إذا صدر مثلا من قاصر أو محجور عليه . فإذا بطل العطاء في الحالين لم يبطل أثره وهو إسقاط العطاء الذي تقدمه .
الحالة الرابعة – القبول في عقود الإذعان
دائرة عقود الإذعان : قد يكون القبول مجرد إذعان لما يمليه الموجب ، فالقابل للعقد لم يصدر قبوله بعد مناقشة ومفاوضة ، بل هي في موقفه من الموجب لا يملك إلا أن يأخذ أو أن يدع . ولما كان في حاجة إلى التعاقد على شيء لا غناء عنه ، فهو مضطر إلى القبول . فرضاؤه موجود ، ولكنه مفروض عليه . ومن ثم سميت هذه العقود بعقود الإذعان.
هذا الضرب من الإكراه ليس هو المعروف في عيوب الإرادة ، بل هو إكراه متصل بعوامل اقتصادية أكثر منه متصلا بعوامل نفسية .
ويتبين مما تقدم أن عقود الإذعان لا تكون إلا في دائرة معينة تحددها الخصائص الآتية :
- ( 1 ) تعلق العقد بسلع أو مرافق تعتبر من الضروريات بالنسبة إلى المستهلكين أو المنتفعين .
- ( 2 ) احتكار الموجب لهذه السلع أو المرافق احتكاراً قانونياً أو فعلياً ، أو على الأقل سيطرته عليها سيطرة تجعل المنافسة فيها محدودة النطاق .
- ( 3 ) صدور الإيجاب إلى الناس كافة وبشروط واحدة وعلى نحو مستر أي لمدة غير محددة . ويغلب أن يكون في صيغة مطبوعة تحتوى على شروط منفصلة لا تجوز فيها المناقشة وأكثرها لمصلحة الموجب ، فهي تارة تخفف من مسئولية التعاقدية وأخرى تشدد في مسئولية الطرف الآخر ، وهي في مجموعها من التعقيد بحيث يغم فهمها على أوساط الناس .
وأمثلة هذه العقود كثيرة :
فالتعاقد مع شركات النور والماء والغاز ، ومع مصالح البريد والتلغراف والتلفون ، وعقد النقل بوسائله المختلفة من سكك حديدية وكهربائية وبواخر وسيارات وطيارات وغير ذلك ، والتعاقد مع شركات التامين بأنواعه المتعددة ، وعقد العمل في الصناعات الكبرى ، كل هذا يدخل في دائرة عقود الإذعان .
ومن ثم نرى أن القبول في هذه العقود هو كما قدمنا إذعان . فالموجب يعرض إيجابه في شكل بات نهائي لا يقبل مناقشة فيه ، فلا يسع الطرف الآخر إلا أن يقبل إذ لا غنى له عن التعاقد ، فهو محتاج إلى الماء والنور والغاز ، وكثيرا ما تعرض له حاجة إلى الاتصال بالناس عن طريق التراسل ولا بد له من التنقل
والسفر في بعض الأحايين ، وهو مضطر إلى العمل ليكسب ما يقوم بأوده . وقد نصت المادة 100 من القانون الجديد على هذا المعنى في العبارات الآتية : القبول في عقود الإذعان يقتصر على مجرد التسليم بشروط مقررة يضعها الموجب ولا يقبل مناقشة فيها .
طبيعة عقود الإذعان :
وقد انقسم الفقهاء في طبيعة عقود الإذعان إلى مذهبين رئيسيين . فبضعهم يرى أن عقود الإذعان ليست عقودا حقيقية ، ويذهب فريق آخر إلى إنها لا تختلف عن سائر العقود .
أما الفريق الأول – وعلى رأسهم الأستاذ سالي وتابعه في ذلك فقهاء القانون العام مثل ديجيه وهوريو – فينكر على عقود الإذعان صبغتها التعاقدية ، إذ أن العقد توافق إرادتين عن حرية واختيار ، أما هنا فالقبول مجرد إذعان ورضوخ .
فقعد الإذعان أقرب إلى أن يكون قانونا أخذت شركات الاحتكار الناس باتباعه فيجب تفسيره كما يفسر القانون ، ويرعى في تطبيقه مقتضيات العدالة وحسن النية ، وينظر فيه إلى ما تستلزمه الروابط الاقتصادية التي وضع لتنظيمها . ويرى الأستاذ ديموج ، ويتفق في هذا مع فقهاء القانون العام ، أن عقد الإذعان هو مركز قانوني منظم ( institution) يجب أن يعني في تطبيقه بصالح العمل أولاً ، ثم بما يستحق الحماية من صالح كل من طرفي العقد .
ويرى الفريق الثاني – وهم غالبية فقهاء القانون المدني – أن عقد الإذعان عقد حقيقي يتم بتوافق إرادتين ، ويخضع للقواعد التي تخضع لها سائر العقود . ومهما قيل من أن أحد المتعاقدين ضعيف أمام الآخر .
فإن هذه ظاهرة اقتصادية لا ظاهرة قانونية ، وعلاج الأمر لا يكون بإنكار صفة العقد على عقد حقيقي ، ولا بتمكين القاضي من تفسير هذا العقد كما يشاء بدعوى حماية الضعيف ، فتضطرب المعاملات وتفقد استقرارها ، بل أن العلاج الناجع هو تقوية الجانب الضعيف حتى لا يستغله الجانب القوي . ويكون ذلك بإحدى وسيلتين أو بهما معاً :
الأولى وسيلة اقتصادية فيجتمع المستهلكون ويتعاونون على مقاومة التعسف من جانب المحتكر ، والثانية وسيلة تشريعية فيتدخل المشرع – لا القاضي – لينظم عقود الإذعان .
حكم عقود الإذعان في القانون القديم والجديد :
وقد كانت الحماية في مصر ، في ظل القانون القديم ، حماية قضائية . فكان القضاء من جهة يعتبر عقود الإذعان عقوداً حقيقية واجبة الاحترام ، فيحترم الشروط لمطبوعة ف يعقد الإيجار ، وفي عقود التأمين ، ويلزم من يتعامل مع شركة باحترام لوائحها المطبوعة ، ومن يتعاقد مع مصلحة السكك الحديد بمراعاة نظمها ولوائحها . ويقيد المستخدم في عقد العمل باحترام لوائح الخدمة التي يخضع لها .
إلا أن مع ذلك يغلب الشروط المكتوبة على الشروط المطبوعة، ويبطل الإعفاء الاتفاقي من المسئولية ، ويفسر الالتزام في مصلحة الطرف المذعن، وينسخ الإرادة السابقة بالإرادة اللاحقة .
وجاء القانون الجديد فجعل الحماية تشريعية ، ونظم بنصوص خاصة عقد التزام المرافق العامة وعقد العمل وقد التأمين . وأتى بنصوص عامة لتنظيم عقود الإذعان كافة ، فجعل بذلك للقضاء المصري في ظل القانون القديم سنداً تشريعياً في عهد القانون الجديد ، ومهد أمامه الطريق ليخطو خطوات أوسع في حماية الجانب المذعن . وندع النصوص الخاصة في العقود التي سلفت الإشارة إليها تدرس في مواضعها . ونقتصر هنا على إيراد النصوص العامة
فقد نصت المادة 149 على أنه
إذا تم العقد بطريق الإذعان ، وكان قد تضمن شروطا تعسفية جاز للقاضي أن يعدل هذه الشروط أو أن يعفي الطرف المذعن منها ، وذلك وفقا لما تقضي به العدالة . ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك .
وهذا النص في عمومه وشموله أداة قوية في يد القاضي يحمى بها المستهلك من الشروط التعسفية التي تفرضها عليه شركات الاحتكار . والقاضي هو الذي يملك حق تقدير ما إذا كان الشرط تعسفياً ، ولا معقب لمحكمة النقض على تقديره ما دامت عبارة العقد تحتمل المعنى الذي أخذ به . فإذا كشف شرطاً تعسفياً في عقد إذعان ، فله أن يعدله بما يزيل اثر التعسف ، بل له أن يلغيه ويعفى الطرف المذعن منه
ولم يرسم المشرع له حدوداً في ذلك إلا ما تقتضيه العدالة . ولا يجوز للمتعاقدين أن ينزعا من القاضي سلطته هذه باتفاق خاص على ذلك ، فإن مثل هذا الاتفاق يكون باطلا لمخالفته للنظام العام ، ولو صح للجأت إليه شركات الاحتكار وجعلته شرطاً مألوفاً في عقودها .
ونصت المادة 151 على ما يأتي
- يفسر الشك في مصلحة المدين .
- ومع ذلك لا يجوز أن يكون تفسير العبارات الغامضة في عقود الإذعان ضاراً بمصلحة الطرف المذعن .
وقد ورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي ويراعى من ناحية أخرى أن الأصل أن يفسر الشك في مصلحة المدين عند غموض عبارة التعاقد غموضاً لا يتيح زواله . وقد استثنى المشروع من حكم هذا الأصل عقود الإذعان ،
فقضى أن يفسر الشرك فيها لمصلحة العاقد المذعن ، دائناً كان أو مديناً . فالمفروض أن العاقد الآخر ، وهو أقوى العاقدين ، يتوافر له من الوسائل ما يمكنه من أن يفرض على المذعن عند التعاقد شروطاً واضحة بينة . فإذا لم يفعل ذلك اخذ بخطاه أو تقصيره وحمل تبعته ، لأنه يعتبر متسبباً في هذا الغموض من وجه :
أنظر المادة 1288 من التقنين الإسباني وكذلك المادة 915 من التقنين النمساوي وهي تنص على أن إبهام العبارة يفسر ضد من صدرت منه
الحالة الخامسة – القبول في عقود الجماعة وفي العقود النموذجية :
تضمن المشروع التمهيدي نصين ن احدهما خاص بعقود الجماعة ( contrats collectives ) ، والثاني بالعقود النموذجية ( contrats – type) .
فكانت المادة 146 من المشروع التمهيدي تنص على أنه
في عقود الجماعة يتم القبول برضاء الأغلبية ، وترتبط الأقلية بهذا القبول.
ومثل عقود الجماعة عقد العمل الجماعي وهو العقد الذي ينظم شروط العمل ما بين طائفة أصحاب الأعمال وطائفة العمال . ويتم الإيجاب والقبول فيه برضاء الأغلبية من كل من الطائفتين
وترتبط الأقلية بالعد . وهنا نرى أن كل فرد من الأقلية قد ارتبط بعقد لم يقبله ولم يكن طرفاً فيه ، وأصبح لا يستطيع الانحراف في عقد فردي عن نصوص العقد الجماعي . وفي هذا خروج بين على القواعد المدنية ، يعلله أن عقود الجماعة أقرب إلى القوانين منها إلى العقود ، وهي على كل حال تنشئ مراكز قانونية منظمة.
وكانت المادة 147 من المشروع التمهيدي تنص على أنه:
إذا وضعت السلطة العامة أو أية هيئة نظامية أخرى نموذجاً لأحد العقود ، فإن من يبرم هذا العقد ويحيل على النموذج يتقيد بالشروط على الوردة فيه .
والعقد النموذجي هو الذي تضعه سلطة عامة أو أية هيئة نظامية أخرى ، كعقود الإيجار النموذجية التي تضعها وزارة الأوقاف أو المجالس البلدية أو النقابات . ويقضى النص السالف الذكر بأن من يتعاقد محيلا في تعاقده على عقد نموذجي يتقيد بالشروط الواردة فيه ، لأن الإحالة عليه تفترض أن المتعاقد قط اطلع على ما ورد فيه من الشروط وارتضاها .
وقد حذف هذان النصان في المشروع النهائي ، حذف الأول لأن مكانه يحسن أن يكون في تشريع خاص ، وحذف الثاني لوضوح الحكم الوارد فيه .