أهمية التمييز بين الواقع والقانون لنقض الحكم

بحث أهمية التمييز بين الواقع والقانون تتبلور في أن الوظيفة الرئيسية لمحكمة النقض هى مراقبة تطبيق القانون وتوحيد كلمة القضاء فيما قد يختلف في تفسيره أو تأويله من نصوصه

التمييز بين الواقع والقانون

و وباعتبار أن محكمة النقض محكمة قانون وليست درجة من درجات التقاضي فإنها لا تعيد النظر في الخصومة التي كانت مرددة أمام محكمة الموضوع ، وإنما تنشغل بمراقبة الحكم الصادر في هذه الخصومة للتحقق من أنه صدر صحيحا من حيث إعماله أحكام القانون ، سواء عند فهمه واقع الدعوى ، أو لدى تكييفه هذا الواقع ثم إنزال القواعد القانونية واجبة التطبيق عليه

التمييز بين الواقع والقانون

الوظيفة الرئيسية لمحكمة النقض هى مراقبة تطبيق القانون وتوحيد كلمة القضاء فيما قد يختلف في تفسيره أو تأويله من نصوصه حتى لا تتعدد معاني النصوص وتختلف تبعا لاختلاف من يقضى ، وتتباين حظوظ أناس تشابهت ظروفهم تبعا لاختلاف القضاة الذين يحكمون فى قضاياهم

الأمر الذى يؤدى إلى الإخلال بمبدأ المساواة بين المخاطبين بأحكام القانون ، وإلى الإضرار بالعدالة جوهرا ومظهرا ، ويستتبع عدم اطمئنان الناس لأحكام القضاء

وباعتبار أن محكمة النقض محكمة قانون وليست درجة من درجات التقاضي فإنها لا تعيد النظر في الخصومة التي كانت مرددة أمام محكمة الموضوع ، وإنما تنشغل بمراقبة الحكم الصادر في هذه الخصومة للتحقق من أنه صدر صحيحا من حيث إعماله أحكام القانون ، سواء عند فهمه واقع الدعوى ، أو لدى تكييفه هذا الواقع ، ثم إنزال القواعد القانونية واجبة التطبيق عليه

والرأي السائد في الفقه والقضاء أن للحكم جوانب واقعية أو موضوعية لا تتضمن أية تقريرات قانونية ، وذلك فضلا عن جوانبه القانونية التى قد تتعيب بمخالفة القانون أو بالخطأ فى تطبيقه أو في تأويله ، وأن رقابة محكمة النقض – وهى محكمة قانون – تمتد إلى جانب الحكم القانونية دون جوانبه الواقعية حيث تكون لمحكمة الموضوع بشأنها سلطة مطلقة تنحسر عنها تلك المراقبة

ومن هذا المنطلق أصبحت لمسألة التمييز بين الواقع والقانون أهمية بالغة في نظر أصحاب ذلك الرأى الذي ساد ، وكاد يصبح من قبيل المسلمات غير القابلة للمناقشة وإعادة النظر

وبسبب ما توهمه البعض من أن محكمة النقض تتجاوز في حالات كثيرة حدود سلطتها فى مراقبة تطبيق القانون وأنها غزت مجال الواقع على نحو بالغ التوسع جرت فى الفقه محاولات متعددة لوضع معيار يفرق بين ما يعد من مسائل الواقع الذي تنحسر عنه رقابة محكمة – النقض وما يعتبر من مسائل القانون الذى تتوفر هذه المحكمة على رقابته

وذهب كل فريق إلى ما راه – من وجهة نظره – أوفق ، فتعددت المعايير بتعدد المذاهب والنظريات ، وحاول كل فريق أن يقيم الدليل والحجة على سلامة ما رأى ، و فساد ما ذهب إليه سواه

وقد باءت المحاولات التي بذلت لوضع ذلك المعيار المنضبط بالفشل حتى سلم البعض لمحكمة النقض بأن تحدد هي ما يعتبر من مسائل الواقع وما يعتبر من مسائل القانون وانصرف البعض الآخر عن محاولة البحث استنادا إلى أن وضع خط فاصل بين الواقع والقانون أمر بالغ الصعوبة ، وقالوا إن المشكلة سوف تبقى بغير حل

وقبل أن ندلي برأينا فى هذه المسألة رأينا أن نعرض لكافة ما اتصل به علمنا من نظريات قيلت في معرض البحث عن حلول لمشكلة التمييز بين الواقع والقانون ، ولما وجه إلى كل من هذه النظريات من انتقادات

محاولات وضع معيار للتمييز بين الواقع والقانون

التمييز بين الواقع والقانون

اولا : نظرية الأفكار المعرفة قانونا :

ظهرت هذه النظرية فى فرنسا عام ۱۸۲۲ انتصارا لرأى أبداه القاضي « باريس » رئيس الدائرة الجنائية بمحكمة النقض الفرنسية مؤداه أن المشرع حدد معاني بعض الألفاظ والاصطلاحات القانونية كتعريفه الفاعل الأصلى للجريمة، والشروع فيها إلى غير ذلك من تعاريف جرت بها نصوص في القانون .

وسكت عن تحديد معاني اصطلاحات أخرى كثيرة كعلاقة السببية ، وجسامة الخطأ غير العمدي ، والفعل الفاضح ، تاركا للقاضى سلطة مطلقة فى تعريفها ومن ثم فإن رقابة محكمة النقض تمتد إلى ما قام المشرع بتعريفه باعتباره من مسائل القانون وتنحسر عن الألفاظ والاصطلاحات غير المعرفة قانونا باعتبارها من مسائل الواقع

وقد سايرت محكمة النقض في كل من فرنسا وبلجيكا والمحكمة العليا في ألمانيا الاتحادية هذه النظرية ثم ما لبثت أن عدلت عنها لما وجه إليها من انتقادات

د . أحمد فتحي سرور النقض الجنائي ، ص ۲۷۷

 وتطبيقا لنظرية الأفكار المعرفة قانونا في مجال النقض المدني يمكن القول بان :

  • تعريف المشرع في مصر للمقايضة بأنها عقد يلتزم كل من التعاقدين به أن ينقل إلى الآخر على سبيل التبادل ملكية مال ليس من النقود
  • وللهبة بأنها عقد يتصرف بمقتضاه الواهب فى مال دون عوض
  • وللشركة بأنها عقد يلتزم فيه شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهم في مشروع مالي بتقديم حصة من مال أو عمل لاقتسام ما قد ينشأ عن هذا المشروع من ربح أو خسارة
  • وللقرض بأنه عقد يلتزم به القرض أن ينقل إلى المقترض ملكية مبلغ من النقود ، أو أي شيء مثلى آخر ، على أن يرد إليه المقترض عند نهاية القرض شيئاً مثله في مقداره ونوعه وصفته
  • وللموطن بأنه المكان الذى يقيم فيه الشخص عادة .

كل ذلك ومثله يعتبر من مسائل القانون التي يخضع قاضى الموضوع في تحديده لمعناها لرقابة محكمة النقض أما الأفكار التي لم يقم المشرع بتعريفها كفكرة الضرر الموجب للحكم بالتعويض وفكرة التعبير الضمني عن الإرادة ، وفكرة الإذعان في العقود التي تحمل هذا الاسم.

فإن القاضي هو الذى يحدد معانيها وتكون له سلطة مطلقة فى ذلك ولا يخضع حكمه في هذا الشأن لرقابة محكمة النقض لأنه يبذل جهدا ذاتيا فى استخلاص تلك المعاني

الانتقادات التى وجهت إلى هذه النظرية :

من أهم ما وجه إلى نظرية الأفكار المعرفة قانونا من انتقادات :

  1.   أن كافة الألفاظ والاصطلاحات الواردة فى القانون لها معنى محدد قصده الشارع سواء بذل القاضي جهدا في استخلاص هذا المعنى ، أو لم يبذل مثل هذا الجهد بعد أن أغناه المشرع عن التعريف
  2.  أن المشرع عندما ترك للقاضى مهمة تحديد معانى تلك الألفاظ والاصطلاحات لم يمنحه سلطة مطلقة فى ذلك تجيز له الخروج عن المعنى الذي أراده واضع القانون
  3.  أن التعريف كأصل عام ليس من وظيفة المشرع ، وإنما هو من مهام الفقه ، ومن ثم فإن التعاريف التشريعية فضلا عن قلتها فإنها غالبا ما تكون غير كافية
  4.   أن النظرية جاءت متأثرة بقانون تشكيل محكمة النقض الفرنسية ، حيث كان يقصر الطعن بالنقض على المخالفة المباشرة أو الصريحة للقانون دون أن يمتد إلى حالات الخطأ في تطبيقه أو في تأويله

ثانياً : نظرية التقديرات القانونية :

صاحب هذه النظرية هو  المدعى العام الفرنسي » دوبين فى عام ١٨٣٤ – وقوامها أن ما تدخل المشرع في تقديره بشكل معين يعتبر من قبيل التقديرات القانونية التي يخضع قاضى الموضوع فيها لرقابة محكمة النقض وما لم يتدخل المشرع في تقديره لا يعتبر من التقديرات القانونية ، ولا يعدو أن يكون تقديرا ماديا للقاضى فيه سلطة مطلقة لا معقب عليها من محكمة النقض

وتطبيقا لهذه النظرية فى مجال النقض المدني يمكن القول بأن تحديد المشرع الجزء الذى يجوز خصمه من أجر العامل إذا تسبب فى إتلاف مهمات أو منتجات لرب العمل ، أو تحديده مكافأة نهاية خدمة العامل بنسبة معينة من أجره – يعتبر من قبيل التقديرات القانونية ويخضع القاضى فيه لرقابة محكمة النقض

أما المسائل التي لم يتدخل المشرع في تقديرها فإنها لا تعدو أن تكون تقديرات مادية يمكن التعرف عليها بطريقة محسوسة : كالتقرير بحدوث الخطأ أو بعدم حدوثه ، و بوقوع الضرر أو عدم وقوعه ، وبقيام تشابه بين علامتين أو بانتفاء هذا التشابه ، أو بقيام شركة واقع أو عدم قيامها ، أو بقيام علاقة عمل بين طرفي النزاع أو نفى ذلك ، أو بثبوت أو نفى واقعة التأجير من الباطن

أو تقديرات معنوية يحددها قاضى الدعوى بإحساسه الخاص لكونها ظواهر نفسية أو عقلية كتقدير وسائل الإكراه ومبلغ جسامتها على نفس المتعاقد وتقدير جدية السبب الذي يولد الخشية فى نفس المشترى من نزع المبيع من تحت يده

والتعرف على نية واضع اليد عند البحث فى تملكه بالتقادم  والتعرف على نية التبرع أو على نية المشاركة لدى المتعاقدين أو على حسن النية وسوئها – فإنها لا تعتبر تقديرات قانونية وإنما تعد من مسائل الواقع التي تنحسر عنها رقابة محكمة النقض

وباستقراء أحكام محكمة النقض المصرية يبين منه أنها أخذت بنظرية دوبين

الانتقادات التي وجهت إلى هذه النظرية  :

خلاصة ما قوبلت به نظرية التقديرات القانونية من انتقادات :

  1.  أنها أضافت إلى مشكلة التمييز بين الواقع والقانون صعوبة أخرى هي البحث عن معيار للتفرقة بين التقديرات القانونية والتقديرات غير القانونية
  2.  أنها تجاهلت عملية التكييف القانوني التى يخضع قضاء الموضوع في إجرائها الرقابة محكمة النقض باعتبارها من مسائل القانون ولأنها عملية ذات طبيعة واحدة حتى مع اختلاف الفكرة القانونية المراد تطبيقها
  3.   أنه من التحكم تقييد رقابة محكمة النقض بإقامة تفرقة بين التقدير القانوني والتقدير المادي والمعنوي
  4.   أنه من المألوف أن تتحول بعض الأفكار من فروع المعرفة الإنسانية إلى أفكار قانونية ، وقد ذهب الفقه إلى تسمية هذه الأفكار بالأفكار القانونية المشتقة لتمييزها عن الأفكار القانونية الأصلية

ثالثاً : نظرية التكييف العام والتكييف الخاص :

تنسب هذه النظرية إلى الفقيه الفرنسي « مارتي » وعمادها أن كل تكييف قانوني يثير مشكلة متعلقة بالقانون ، وكل تعريف قانوني يضع أيضاً مشكلة متعلقة بالقانون

ويوجب تدخل محكمة النقض المراقبة مدى صحة ذلك التكييف أو التعريف . ولما كانت رقابة هذه المحكمة لا تجد مبررا لها إلا بقدر ما لها من فائدة في توحيد القضاء

فإنه في الحالات التي يكون فيها التكييف أو التعريف القانوني قابلا لاكتساب أهمية تجاوز نطاق الدعوى المطروحة على القاضي  فإن عملية التكييف تخضع لرقابة محكمة النقض باعتبارها من قبيل التكييف العام

أما في الحالات التي لا تكتسب فيها عملية التكييف مثل تلك الأهمية ، حيث ترتبط بوقائع الدعوى ذاتها المطروحة على القاضى ولا تنفصل عنها أو تصلح للتطبيق على وقائع أخرى

فإنها تعتبر من التكييف الخاص الذى لا تخضع محكمة الموضوع فيه لرقابة محكمة النقض . وإذا أرادت هذه المحكمة أن تباشر وظيفتها فى توحيد القضاء فعليها أن تقصر رقابتها على التكييف القانوني الذى تتوافر بصدده عناصر قابلة للتطبيق العام

التمييز بين الواقع والتزامات القاضي

الانتقادات التي وجهت إلى هذه النظرية :

أخذ على نظرية مارتي :

  1. أنه لا يجوز تقييد رقابة محكمة النقض على عملية التكييف القانوني بمدى عمومية هذا التكييف أو خصوصيته لأن قضاء النقض لا تتحدد آثاره إلا بالنسبة للدعوى المطعون فى الحكم الصادر فيها وحدها ولا تمتد إلى غيرها
  2. أن كل مشكلة قانونية إنما تتعلق بحالة معينة بذاتها ولا يجوز حل هذه المشكلة إلا وفقا لمعايير قانونية عامة .
  3. أن كل تفسير لقاعدة قانونية تمتد إليه رقابة محكمة النقض دون تخصيص باعتباره من مسائل القانون، أما ما تعلق بالاعتراف بالوقائع الثابتة بعد تحقيقها فإنه يعتبر من مسائل الواقع التي تنحسر عنها تلك الرقابة
 يراجع في تفصيل ذلك د . أحمد فتحي سرور – المرجع السابق ص ۲۸۱ ، ص ۲۸۲ د. نبيل عمر – النظرية العامة للطعن بالنقض ص 153

رابعاً : نظرية القياس المنطقي :

تعتمد هذه النظرية على الاستدلال غير المباشر وهو انتقال عقلي من قضايا فرضت إلى قضايا أخرى تلزم عنها أي استنتاج مسألة مجهولة من أخرى معلومة بطريق القياس المعرف في علم المنطق بأنه « قول مؤلف من قضايا – إذا سلمت – لزم عنها لذاتها قول آخر يتكون من ثلاثة حدود :

  • أولها : الحد الأكبر ، والقضية التي تحتويه تسمى المقدمة الكبرى
  • وثانيها : الحد الأصغر ، والقضية التي تشتمل عليه تسمى المقدمة الصغرى
  • وثالثها : الحد الأوسط ، وهو مشترك بين المقدمتين الكبرى والصغرى .

وذلك فضلا عن نتيجة القياس وتتضمن كلا من حدية الأكبر والأصغر قال أصحاب نظرية القياس المنطقي أو الأرسطي أن كل حكم صدر في دعوى أو في مسألة متفرعة من دعوى هو في الحقيقة نتيجة منطقية لقياس مقدمته الكبرى هي القاعدة القانونية الواجبة التطبيق على مادة النزاع ، ومقدمته الصغرى ما ثبتت صحته من وقائع هذه المادة .

فالحكم بالتعويض على مرتكب الفعل الضار هو نتيجة قياس منطقي كبراه القاعدة القانونية التي تنص على أن كل من تسبب في إضرار غيره فعليه الضمان » وصغراه هي نسبة الحادث الضار إلى المتسبب فيه

وفساد المقدمة الكبرى يؤدى إلى مخالفة القانون أو الخطأ في تطبيقه أو في تأويله أما فساد المقدمة الصغرى فإما أن يتعلق بعدم التثبت من الوقائع والظروف الملابسة – وهذا أمر لا يخضع القاضى فيه لرقابة محكمة النقض – وإما أن يكون خطأ في التكييف وإعطاء الوصف القانوني – وهذا خطأ في تطبيق القانون أما إذا كان الفساد في النتيجة أي في منطوق الحكم لعدم أخذه بالنتيجة الضرورية لمقدمتين صحيحتين فهذا خطأ في القانون

حامد ومحمد حامد فهمي – النقض في المواد المدنية والتجارية – ص ۱۲۹ ، ص 130
الانتقادات التي وجهت لهذه النظرية :

عيب على هذه النظرية :

  1.  أن التحليل الذى أتت به وإن صلح فى مجال المنطق البحث إلا أنه لا يصلح معيارا للتمييز بين الواقع والقانون ، لأن ما يعتبر داخلا في المقدمة الكبرى للقياس المنطقي يدخل أيضاً في مقدمته الصغرى عند التكييف
  2.  أن نتيجة هذا القياس وهى الحكم القضائي تبنى بالحتم على المقدمتين في آن واحد حيث يمتزج القانون بضوابطه الدقيقة مع الواقع بتقديره المطلق
  3.  أن هذه النظرية تعنى بتوصيف نشاط القاضى فى الدعوى والبحث في كل مرحلة عما يعد من مسائل الواقع وما يعد من مسائل القانون
  4. أن نشاط القاضى لا ينحصر فقط في استخلاص نتائج قانونية تترتب من تطبيق نصوص القانون على ما ثبت لدى القاضى من وقائع

فإلى جانب هذا النشاط يقوم القاضي باستخلاص واقعى أي استخلاص واقعة من واقعة أخرى ، ومن ثم فإن رقابة محكمة النقض ليست دائما رقابة قانونية – كما انتهت نظرية القياس المنطقي ـ إذ قد تكون أيضاً رقابة على الواقع وهو ما يسلم به أنصار هذه النظرية بتحفظ أو ردوه مؤداه

أنه إذا كان تقدير القاضي مطلقا بشأن الإثبات المادي للوقائع ، وكان هذا الإثبات منطقة محرمة على محكمة النقض ، فإن ذلك ليس معناه أن هذه المحكمة تتجاهل كلية وقائع الدعوى بل هي تراقب المنطق القضائي من خلال تسبيب الحكم بشأن هذه الوقائع

د . أحمد فتحي سرور – المرجع السابق ص ٢٠٥ ، د . أحمد السيد صاوي نطاق رقابة محكمة النقض على قاضي الموضوع ، ص ۱۱۷ ، ص ۱۱۸

خامساً : نظرية تعقب نشاط القاضي :

يرى أصحاب هذه النظرية أن نشاط القاضى فى كل دعوى يتدرج من فحص وقائعها وتقرير الصحيح الثابت منها إلى وصف هذا الثابت وصفا قانونيا أي تكييفه ثم إلى إيقاع حكم القانون على مقتضى هذا التكييف ويطيلون النظر في كل مرحلة من هذه المراحل ويقررون ما إذا كان عمل القاضى فيها عملا قانونيا صرفا

ومن ثم يخضع لرقابة محكمة النقض أم هو مجرد تحرى الصدق فى الوقائع المدعى بها يعمل فيه القاضي بذكائه ومنطقه وذوقه ، حيث لا يخضع لتلك الرقابة باعتبار ذلك من مسائل الواقع . وقد نادى بهذه النظرية الفقهاء بونييه ، وفاى ، وشينون

الانتقادات التي وجهت إلى هذه النظرية :

وقد أخذ على هذه النظرية أنه فضلا عن عدم سلامة نتائجها ، فإنها طريقة مجهدة ولا تعنى إلا بتوصيف نشاط القاضى فى الدعوى كنظرية القياس المنطقي

ومن ثم فهي لا تصلح معيارا للتفرقة بين الواقع والقانون مما حدا بأصحابها إلى القول بأن الوقائع ليست بمنأى كلية من رقابة محكمة النقض وإنما تخضع لرقابة استثنائية وإلى لزوم استقراء أحكام هذه المحكمة للوقوف على ما يعد من مسائل الواقع وما يعد من مسائل القانون

 د . أحمد صاوي – المرجع السابق ص ١١٥ ، ص ١١٦
سادسا : نظرية الفقيه الفرنسي جاك بوريه :

يرى « بوريه » أن محكمة النقض لا تبسط رقابتها على كل مسائل القانون ، فقد اعتبرت قواعد العرف ، والعادات ، والقانون الأجنبي من مسائل الواقع . كما أنها امتنعت عن رقابة بعض التكييفات القانونية مثل ما يعد عيبا خفيا في المبيع ، وما يعتبر إساءة بالغة في مسائل الطلاق

فعندها أن القانون في مثل هذه الحالات كذلك فإن هذه المحكمة لا تحجم كلية عن رقابة ما يتصل بالواقع فهي تباشر رقابتها على الوقائع عن طريق رقابة مدى كفاية أسباب الحكم الواقعية . فضلا عن أنها تبحث بنفسها الوقائع والمستندات في بعض الحالات، وتتصدى لموضوع الدعوى في حالات أخرى يصبح واقعا

وترتيبا على ذلك انتهى » بوريه » إلى القول بأن مسائل القانون تعنى تلك المسائل التي تباشر عليها محكمة النقض رقابة واسعة ، بينما تعنى مسائل الواقع ، تلك المسائل التي لا تباشر عليها هذه المحكمة سوى رقابة محدودة

الانتقادات التي وجهت إلى هذه النظرية :

أخذ على هذه النظرية أنها فى النهاية تصل إلى نقطة البداية فالقول بأن مسائل تلك التي تباشر عليها محكمة النقض رقابة واسعة ، وأن مسائل الواقع هي تلك التي لا تباشر عليها هذه المحكمة سوى رقابة محدودة ، لا يقدم معيارا للتمييز بين مسائل الواقع ومسائل القانون ولا يعدو أن يكون دعوة للبحث في قضاء النقض عما يعتبر في نظرها من مسائل الواقع وما يعد من مسائل القانون

د . أحمد صاوي ص ۱۱۸ وما بعدها من مؤلفه السابق

سابعاً : نظرية التفرقة بين المسائل البسيطة والمسائل المعقدة :

مؤدى هذه النظرية أن المسائل البسيطة أي المسائل العامة التي لا تحتاج في تفسيرها أو لتطبيقها لغير النص القانوني ذاته هي التي تعتبر من مسائل القانون . أما مسائل الواقع فهي المسائل المعقدة التي تحتاج فى تفسيرها وتطبيقها ليس فقط النص ذاته ، وإنما كذلك ظروفا خارجة عنه

الانتقادات التي وجهت إلى هذه النظرية :

نعي الفقه على هذه التفرقة بين مسائل الواقع ومسائل القانون أنها تقوم على معيار يتسم بالغموض والقصور وسهولة الخلط ولا يمكن أن يغير من طبيعة تقدير القاضي

ثامناً : نظرية سلطة الملاءمة :

حاول بعض الفقهاء فى ألمانيا اقتباس تفرقة معروفة فى القانون الإداري بين سلطة الملاءمة والاختصاص المقيد أو المرتبط بالوظيفة . وارتأوا تطبيقها على نشاط قاضي الموضوع في الدعاوى المدنية والجنائية

وقال أصحاب الرأى السائد فى الفقه الألماني أن هذه النظرية تؤدى إلى منح القاضى حرية تكاد تكون مطلقة تجاه القانون واتجهوا إلى القول بأن

المشرع في الحالات التي لا يكون فيها تقعيده القانوني كاملا ومستوعبا كل التفصيلات – فإنه يفوض القاضى سلطة تقترب من سلطة الملاءمة لكنها تتفاوت ضيقا واتساعا بحسب التقعيد القانوني الذى يكون على درجة تضيق أو تتسع فى اكتماله أو فى تفاصيله . وعلى هذا الأساس يمكن التماس التفرقة بين القانون والواقع فيما يمكن تسميته بدرجة الحرية الممنوحة للقاضي في تقديره

وقد اخذ على هذا الرأى :

أنه بالإضافة إلى غموضه فإن سلطة الملاءمة مهما ضؤلت فهي ممنوعة على القاضي لأنه يخضع على الدوام الحدود قانونية

يرجع فيما يتعلق بالنظريتين السابعة والثامنة إلى رسالة الدكتور محمد زكي أبو عامر شائبة الخطأ في الحكم الجنائي ، ص ٢٢٦ وما بعدها

فشل محاولات البحث عن معيار للتمييز بين الواقع والقانون

يبين مما تقدم أن ما بذل من محاولات فى الفقه لوضع معيار للتمييز بين الواقع والقانون باء بالفشل مما ترتب عليه أن انصرف البعض عن محاولة البحث عن هذا المعيار باعتباره أمرا بالغ الصعوبة واستصوب البعض ترك الأمر لمحكمة النقض لتحدد هي ما يعتبر من مسائل الواقع وما يعد من مسائل القانون

وذهب آخرون إلى القول بأن تحديد نطاق رقابة محكمة النقض لا تكمن المشكلة بصدده في التمييز بين الواقع والقانون بقدر ما تكمن في معرفة إلى أي حد يمكن أن تبسط هذه المحكمة رقابتها على مسائل الواقع والقانون

انتفاء الحاجة للتمييز بين الواقع والقانون

التمييز بين الواقع والقانون

يري المستشار محمد وليد الجارحي نائب رئيس محكمة النقض أن

ما أثار مشكلة التمييز بين الواقع والقانون فهم خاطئ للوظيفة الرئيسية لمحكمة النقض مؤداه أن هذه المحكمة – وهى محكمة قانون تمتد رقابتها إلى جوانب الحكم القانونية فقط دون جوانبه الواقعية حيث تكون لمحكمة الموضوع بالنسبة لهذه الأخيرة سلطة مطلقة تنحسر عنها رقابة محكمة النقض

فقد مضى القول بأن المعنى الجامع لحالات أو وجوه الطعن بالنقض هو مخالفة القانون بمعناه الواسع ، الأمر الذي يوجب أن يكون الحكم القضائي صحيحا من حيث تحصيله وفهمه واقع الدعوى ، وصحيحا من حيث تكييفه هذا الواقع ، ومن حيث إنزال حكم القانون واجب التطبيق عليه

ورقابة محكمة النقض لتطبيق القانون لابد أن تمتد والحال هذه إلى جوانب الحكم المطعون فيه واقعية كانت هذه الجوانب أم قانونية لأن الواقع بعد طرحه على القضاء لابد أن يختلط بالقانون ويرتبط به ارتباطا وثيقا لا انفصام له .

ذلك أن تحديد نطاق الدعوى وتقرير ما إذا كانت الواقعة القانونية أو المادية التي يرتب القانون عليها أثرا قانونيا – قد حدثت أو لم تحدث ، وإثبات الوقائع أو التصرفات القانونية المدعى بها ، وتكييف هذه الوقائع والتصرفات توطئة لإنزال الحكم القانوني الصحيح عليها . كل ذلك من مسائل القانون الذي تتوفر محكمة النقض على مراقبة تطبيقه

التزامات القاضي عند الحكم في الدعوي

التمييز بين الواقع والتزامات القاضي

 

  • القاضي مأمور بالتزام نطاق الدعوى من حيث الخصوم والسبب والموضوع
  •  ومأمور باتباع طرق الإثبات القانونية ووفقا للإجراءات المقررة قانونا فلا يجوز له أن يتثبت من صحة المدعى به إلا على مقتضى الدليل المعتبر في نظر القانون ، ولا يجوز له قبول هذا الدليل وتحقيقه إلا من خلال الإجراءات التي رسمها القانون
  • والقاضي مأمور بفهم واقع الدعوى فهما قانونيا ، أي باستنباط حقيقة الواقع من خلال الأدلة والقرائن التي أجازها القانون ، ورقابة محكمة النقض تتناول التحقق من صحة المصدر الذي استنبط منه هذا الواقع ، فضلا عن سلامة استنباطه أو استخلاصه أي التحقق مما إذا كانت النتيجة التي استخلصها من الوقائع تتفق مع موجب هذه الوقائع
  • والقاضي مأمور بتكييف الواقع طبقا للتكييف القانوني الصحيح ، وبإنزال حكم القاعدة القانونية واجبة التطبيق على ما ثبتت صحته وتأكد صدقه من الواقع المطروح عليه
  • والقاضي ليس حرا في اختيار الحل القانوني للنزاع المعهود إليه بسلطة الفصل فيه ، وحتى في الحالات التي يمنحه القانون فيها سلطة التقدير فإن هذه السلطة – شأنها في ذلك شأن كل السلطات – يتعين أن يكون استعمالها غير مشوب بغلو أو شطط في التقدير ، وأن يكون استعمال القاضى لها استعمالها صحيحا محققا أهداف القانون

صفوة القول أن حكم القاضى – على جهة المجاز – حكمان :

  • أولهما : بصحة أو بعدم صحة المراكز القانونية والحقوق المدعى بها
  • والثاني : بإعلان حكم القانون فى هذه المراكز أو تلك الحقوق وسوف يبين لنا أنه ليست للقاضي سلطة ، لا عند مباشرته لنشاطه الإجرائي ، ولا عند اقتناعه بصحة ، أو عدم صحة الوقائع المدعاة ولا عند اختيار حل للنزاع المطروح عليه

خاتمة بحث التمييز بين الواقع والقانون

التمييز بين الواقع والقانون

للمزيد عن ماهية وأهمية التمييز بين الواقع والقانون وسلطات رقابة محكمة النقض للواقع والقانون في الدعوي القضائية يراجع مؤلف النقض المدني للمستشار محمد وليد الجارحي نائب رئيس محكمة النقض طبعة نادي القضاة 2000 من ص 389 الى ص 401

Print Friendly, PDF & Email
عبدالعزيز حسين عمار محامي بالنقض
عبدالعزيز حسين عمار محامي بالنقض

الأستاذ عبدالعزيز حسين عمار المحامي بالنقض خبرات قضائية فى القانون المدنى والملكية العقارية ودعاوى الإيجارات ودعاوى الموظفين قطاع حكومى وخاص وطعون مجلس الدولة والنقض ليسانس الحقوق 1997

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

لا يمكنك نسخ محتوى هذه الصفحة