ماهية توافق الإرادتين والقبول في العقود

 ماهية توافق الإرادتين والقبول في العقود

98 – التمييز بين حالتين :

لم يعرض القانون القديم بنص إلى هذا الموضوع الذي يعد من أدق موضوعات العقد ، بل ترك الأمر فيه للفقه والقضاء . وهذا بخلاف التقنينات الحديثة كالتقنين الألماني وتقنين الالتزامات السويسري والمشروع الفرنسي الإيطالي ، فقد ورد فيها نصوص على جانب عظيم من الأهمية ، نسج على موالها القانون الجديد ، وهي تبين كيف يصدر الإيجاب ومتى يكون ملزماً ، والى أي وقت ، وكيف يقترن به القبول ، سواء أكان المتعاقدان حاضرين مجلس العقد أم كانا غير موجودين في مجلس واحد .

ونستعرض كلا من هاتين الحالتين : 

( 1 ) حالة ما إذا ضم المتعاقدين مجلس واحد

 ( 2 ) وحالة التعاقد فيما بين الغائبين

 المتعاقدان في مجلس واحد – الإرادة فى العقد كركن هام من أركانه

 

الإرادة فى العقد كركن هام من أركانه

 الإيجاب والقبول :

 تقدم أنه لا يد لتمام العقد من صدور إيجاب من أي من المتعاقدين ح يعقبه قبول مطابق له من المتعاقد الآخر . 

فنتكلم في مسائل ثلاث : 

( أولاً ) صدور الإيجاب )

 ثانياً ) اقترانه بالقبول 

( ثالثاً ) حالات خاصة في القبول .

1-         صدور الإيجاب – الإرادة فى العقد كركن هام من أركانه

المراحل التي يمر بها الإيجاب :

100 – المفاوضات : 

من يصدر منه الإيجاب لا يستقر به الرأي في العادة على أن يصدر إيجاباً باتاً إلا بعد مفاوضات (   ) قد تطول . ويعتبر من قبل المفاوضات أن يعرض شخص التعاقد دون أن يحدد أركانه . كان يضع إعلاناً ينبئ أنه يعرض منزلا للبيع أو للإيجار دون أن يذكر الثمن أو الأجرة . وإذا كانت شخصية المتعاقد محل اعتبار ، فلا يعد إيجاباً بل تفاوضاً أن يعرض شخص التعاقد حتى لو بين أركان العقد ، أما إذا لم يكن هناك اعتبار لشخصية المتعاقد عد هذا إيجاباً .

وكان المشروع التمهيدي يشتمل على نص ( م 134 ) يقي بأن عرض البضائع مع بيان ثمنها يعتبر إيجاباً ، أما النشر والإعلان وبيان الأسعار الجاري التعامل بها وكل بيان آخر متعلق بعروض أو طلبات موجهة للجمهور أو للأفراد فلا يعتبر عند الشك إيجاباً وإنما يكون دعوة إلى التفاوض (   ) . وقضت محكمة الاستئناف المختلطة بأنه لا يعد إيجاباً باتاً ، بل يكون من قبيل المفاوضات ، أن يعرض شخص على آخر القيام بعمل دون أن يتضمن العرض الشروط والتفاصيل اللازمة (   ) .

والقانون لا يرتب في الأصل على هذه المفاوضات أثراً قانونياً ، فكل متفاوض حر في قطع المفاوضة في الوقت الذي يريد . ولا مسئولية على من عدل ، بل هو لا يكلف إثبات أنه قد عدل لسبب جدى . وليست المفاوضات إلا عملا مادياً لا يلزم أحداً . لذلك لا يعد السمسار نائباً لأنه إنما يمهد للمفاوضات وهي عمل مادي لا عمل قانوني .

على أن العدول عن المفاوضات قد يرتب مسئولية على من قطعها إذا اقترن العدول بخطأ منه . ولكن المسئولية هنا ليست مسئولية تعاقدية مبنية على العدول بل هي مسئولية تقصيرية مبنية على الخطأ . والمكلف بإثبات الخطأ هو الطرف الآخر الذي أصابه ضرر من العدول ، فإذا اثبت مثلا أن من قطع المفاوضات لم يكن جاداً عند الدخول فيها ، أو كان جادا ولكن لم يخطره بالعدول في الوقت المناسب ، وأنبنى على ذلك أن فاتته صفقة رابحة ، كان له الحق في المطالبة بتعويض .

101 – الإيجاب المعلق – الإرادة فى العقد كركن هام من أركانه

 وقد تنتهي المفاوضات إلى إيجاب معلق ، كأن يعرض شخص التعاقد بثمن معين مع الاحتفاظ بتعديل هذا الثمن طبقا لتغير الأسعار ، فيكون الإيجاب الذي صدر منه بالثمن الذي عينه معلقاً على شرط عدم تغير الأسعار ، أو أن يعرض شخص على الجمهور شيئاً ذا كمية محدودة يعين ثمنه فيتم العقد مع من قبل أولاً وتراعى الأسبقية في القبول حتى ينفد الشيء . ومن هذا يتبين أن الإيجاب المعلق هو إيجاب لا مفاوضة ، ولكنه إيجاب لا ينفذ إلا إذا تحقق الشرط الذي علق عليه .

102 – الإيجاب البات – الإرادة فى العقد كركن هام من أركانه

فإذا خرج الإيجاب من دور المفاوضة ومن دور التعليق أصبح إيجاباً باتاً . وتقرير ما إذا كان الإيجاب قد وصل إلى هذا الدور النهائي هو من مسائل الواقع لا من مسائل القانون . فينفصل فيه قاضي الموضوع طبقا لظروف كل قضية ولا معقب على حكمة .

القوة الملزمة للإيجاب – الإرادة فى العقد كركن هام من أركانه

103 – في القانون القديم : لم يرد في القانون القديم نص يبين ما إذا كان الموجب يبقى ملزماً بالبقاء على إيجابه المدة الكافية لاقتران القبول بالإيجاب . فكان القضاء يذهب إلى أن للموجب أن يعدل عن إيجابه ما دام الإيجاب لم يقترن بالقبول (   ) .

ولكنه مع ذلك ذهب إلى أن الإيجاب المقرون بأجل يلزم الموجب بالبقاء على إيجابه طول هذا الأجل ، سواء حدد الأجل صراحة أو ضمناً ، وبنى هذا لا على أساس الإرادة المنفردة بل على أساس أن هناك عقداً تم بين الموجب والموجب له يلزم الأول بألا يعدل عن إيجابه المدة المحددة ، وقد تم هذا العقد بقبول ضمني من الموجب له أو بسكوته لأن هذا الأجل في مصلحته (   ) .

وذهب القضاء أيضاً إلى أن عدول الموجب عن إيجابه في وقت غير مناسب قد يجعل للموجب له حقاً في التعويض على أساس المسئولية التقصيرية (   ) .

أما الفقه فكان يقول أيضاً مع القضاء بأن الإيجاب يلزم مدة الأجل ، ولكنه كان يتقلب في تفسير هذه القوة الملزمة بين هذه النظريات الثلاث : نظرية الإرادة المنفردة ، ونظرية العقد الضمني ، ونظرية المسئولية التقصيرية (   ) .

104 – في القانون الجديد – الإرادة فى العقد كركن هام من أركانه

 وأتى القانون الجديد فأقر الوضع على أساس نص تشريعي . فقضت المادة 93 بما يأتي :

\” إذا عين ميعاد للقبول التزم الموجب بالبقاء على إيجابه إلى أن ينقضي هذا الميعاد . 2 – وقد يستخلص الميعاد من ظروف الحال أو من طبيعة المعاملة (   ) \” .

فالإيجاب المقترن بميعاد للقبول ملزم للموجب طبقا لنص القانون الجديد . ولم نعد بعد هذا النص في حاجة إلى البحث عن الأساس الذي تقوم عليه هذه القوة الملزمة ، فالنص صريح في أن الإيجاب وحده هو الملزم ، أي أن الإلزام يقوم على الإرادة المنفردة طبقا لنص القانون ، وهذه هي إحدى الحالات التي نص القانون الجديد على أن الإرادة المنفردة تكون فيها مصدراً للالتزام .

ويكون تحديد الميعاد الذي يبقى فيه الإيجاب ملزماً صريحاً في الغالب . ولكن يقع أحياناً أن يستفاد هذا التحديد ضمنا من ظروف التعامل أو من طبيعته . فإذا عرض مالك آلة أن يبيعها تحت شرط التجربة ، فمن الميسور أن يستفاد من ذلك أنه يقصد الارتباط بإيجابه طوال المدة اللازمة للتجربة .

وعند النزاع في تحديد الميعاد يترك التقدير للقاضي (   ) . وإذا صدر الإيجاب لغائب دون أن يحدد ميعاد للقبول ، فإن الموجب يبقى ملتزماً إلى الوقت الذي يتسع لوصول قبل يكون قد صدر في وقت مناسب وبالطريق المعتاد ، وله أن يفرض أن إيجابه قد وصل غير متأخر (   ) .

فهنا أيضاً يوجد ميعاد ضمني ، إذ قضت طبيعة المعاملة ، والإيجاب قد صدر لغائب ، أن يتربص الموجب مستبقا إيجابه إلى أن ينقضي الميعاد الذي يتسع عادة لوصول القبول إليه فيما لو كان الموجب له قد أرسل هذا القبول دون إبطاء لا تبرره الظروف ومع افتراض أن الإيجاب قد وصل في الميعاد المقدر لوصوله (   ) .

ويبقى الموجب ملتزماً بالبقاء على إيجابه المدة التي حددها ، وما لم يكن إيجابه قد سقط برفض الطرف الآخر له قبل انقضاء هذه المادة كما سيأتي .

أما إذا لم يحدد الموجب أية مدة للقبول ، فإن إيجابه يبقى قائما ، ولكنه لا يكون ملزما ، بل يجوز له الرجوع فيه أي وقت شاء ما دام أنه لم يقترن بالقبول .

ومن ثم نتبين أن الإيجاب قد يكون قائما ملزما ، وقد يكون قائما غير ملزم ، فالقيام غير الإلزام ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك .

سقوط الإيجاب – الإرادة فى العقد كركن هام من أركانه

105 – الإيجاب القائم الملزم : فإذا كان الإيجاب قائماً ملزماً فإنه يسقط في حالتين :

 ( الحالة الأولى ) هي أن يرفض الموجب له الإيجاب ، فيسقط حتى لو لم تنقض المدة التي يكون فيها ملزماً ، ويتخذ رفض الإيجاب صوراً مختلفة ، فهو تارة يكون رفضاً محضاً ، وطوراً يكون قبولا يتضمن تعديلا في الإيجاب ( م 96 وسيأتي ذكرها ) ، وثالثة يكون إيجاباً جديداً يعارض الإيجاب الأول .

 ( الحالة الثانية ) هي أن تنقضي المدة التي يكون فيها الإيجاب ملزماً ، فيسقط ، وينتهي الإلزام والقيام في وقت واحد . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي :

\” يظل الموجب مرتباً بإيجابه في خلال الميعاد المحدد للقبول متى حدد له ميعاد ،

سواء في ذلك أن يصدر الإيجاب لغائب أو لحاضر . فإذا انقضى الميعاد ولم يصل القبول ، فلا يصبح الإيجاب غير لازم فحسب بعد أن فقد ما توافر له من الإلزام ، بل هو يسقط سقوطاً تاماً . وهذا هو التفسير المعقول لنية الموجب ، فهو يقصد ألا يبقى إيجابه قائماً إلا في خلال المدة المحددة ما دام قد لجأ إلى التحديد .

وقد يتصور بقاء الإيجاب قائماً بعد انقضاء الميعاد ولو أنه يصح غير لازم ، ولكن مثل هذا النظر يصعب تمشيه مع ما يغلب في حقيقة نية الموجب . ويراعى أن القول بسقوط الإيجاب عند انقضاء الميعاد يستتبع اعتبار القبول المتأخر بمثابة إيجاب جديد . وهذا هو الرأي الذي أخذ به المشروع في نص لا حق . وغنى عن البيان أن الإيجاب الملزم يتميز في كيانه عن الوعد بالتعاقد ، فالأول إرادة منفردة والثاني اتفاق إرادتين (   ) \” .

106 – الإيجاب القائم غير الملزم –  الإرادة فى العقد كركن هام من أركانه

وإذا كان الإيجاب قائماً غير ملزم – وهذا لا يكون إلا في التعاقد ما بين حاضرين في مجلس العقد – فإنه يسقط أيضاً في حالتين :

 ( الحالة الأولى ) إذا عدل عنه الموجب قبل انفضاض مجلس العقد .

 ( الحالة الثانية ) إذا انفض مجلس العقد ولو لم يعدل عنه الموجب .

وسنرى تفصيل كل ذلك عند الكلام في مجلس العقد ( أنظر م 94  ) .

107 – القبول بعد سقوط الإيجاب إيجاب جديد – الإرادة فى العقد كركن هام من أركانه

وإذا سقط الإيجاب على النحو الذي قررناه فيما تقدم ، فكل قبول يأتي بعد ذلك يكون متأخراً ، ولا يعتد به على اعتبار أنه قبول لإيجاب سابق . ولكن يصح كما رأينا أن يكون هذا القبول المتأخر إيجاباً جديدا موجهاً لمن صدر منه الإيجاب الأول الذي سقط ، فإذا قبله هذا تم العقد .

نرى ذلك في حالة ما إذا رفض الإيجاب بقبول يتضمن تعديلا في الإيجاب أو بإيجاب جديد يعارض الإيجاب الأول . ونرى ذلك كما قدمنا في حالة ما إذا صدر قبول بعد انقضاء المدة التي يكون فيها الإيجاب ملزماً (   ) .

ونرى ذلك أيضاً في حالة ما إذا صدر قبول بعد عدول الموجب عن إيجابه . ونرى ذلك أخيراً في حالة ما إذا صدر قبول بعد انفضاض مجلس العقد . ففي هذه الحالات الأربع – وهي الحالات التي رأينا أن الإيجاب يسقط فيها – إذا صدر القبول بعد سقوط الإيجاب فلا يعتد به قبولا ، ولكنه يعدل إيجاباً جديداً .

ب – اقتران الإيجاب بالقبول

108 – الميعاد الذي يصح فيه القبول – مدة قيام الإيجاب : يصح القبول ما دام الإيجاب قائما . وقد عددنا فيما تقدم الحالات التي يسقط فيها الإيجاب . ونستخلص منها أن الإيجاب المقترن بأجل للقبول صريح أو ضمني يبقى قائماً طول مدة الأجل ، سواء كان التعاقد بين حاضرين أو غائبين . فيجوز في أي وقت في خلال الأجل أن يصدر القبول فيقترن به الإيجاب .

أما إذا كان التعاقد بين حاضرين في مجلس واحد ، ولم يقترن الإيجاب بأجل للقبول ، فإن الإيجاب يبقى قائماً – ويجوز أن يقترن بالقبول – ما دام مجلس العقد لم ينفض . فإذا انفض سقط الإيجاب وامتنع ؟؟؟؟؟ .

109 – مجلس العقد :

 يبقى الآن أن نبين ما هو المقصود بمجلس العقد . جاء هذا التعبير في المادة 94 من القانون المدني الجديد ، وهذا نصها : \”

 1 – إذا صدر الإيجاب في مجلس العقد ، دون أن يعين ميعاد القبول ، فان الموجب يتحلل من إيجابه إذا لم يصدر القبول فورا ، وكذلك الحال إذا صدر الإيجاب عن شخص إلى آخر بطريق التليفون أو بأي طريق مماثل .

 2 – ومع ذلك يتم العقد ، واو لم يصدر القبول فورا ، إذا لم يوجد ما يدل على أن الموجب قد عدل عن إيجابه في الفترة ما بين الإيجاب والقبول ، وكان القبول قد صدر قبل أن ينفض مجلس العقد (   ) \” .

وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : 

\” إن الإيجاب إذا وجه لشخص حاضر وجب أن يقبله من فوره . وينزل الإيجاب الصادر من شخص إلى آخر بالتليفون أو بأية وسيلة مماثلة منزلة الإيجاب الصادر إلى شخص حاضر . وقد اخذ المشروع في هذه الصورة عن المذهب الحنفي قاعدة حكيمة

فنص على أن العقد يتم ولو لم يحصل القبول فور الوقت إذا لم يصدر قبل افتراق المتعاقدين ما يفيد عدول الموجب عن إيجابه في الفترة التي تقع بين الإيجاب والقبول . وقد رؤى من المفيد أن يأخذ المشروع في هذه الحدود بنظرية الشريعة الإسلامية في اتحاد مجلس العقد (   ) \” .

ويتبين من هذا أن الموجب له ، إذا اتحد مجلس العقد حقيقة أو حكماً ( كما في التعاقد بالتليفون أو بأي طريق مماثل ) ، يجب عليه كمبدأ عام أن يصدر قبوله فوراً بمجرد صدور الإيجاب ، فلا يفصل وقت ما بين الإيجاب والقبول . وهذا الوضع – وهو مأخوذ من القوانين الحديثة (   )

يقتضي أن الإيجاب لا يكاد يقوم حتى يسقط ، وفي هذا من الضيق والحرج ما لا يخفى . فلطف القانون الجديد من حدة هذا الوضع بالالتجاء إلى الشريعة الإسلامية ، وجعل الإيجاب يبقى قائماً ما دام مجلس العقد لم ينقض . ومجلس العقد هو المكان الذي يضم المتعاقدين . وليس الملحوظ فيه هو المعنى المادي للمكان ، بل الملحوظ هو الوقت الذي يبقى فيه المتعاقدان منشغلين بالتعاقد دون أن يصرفهما عن ذلك شاغل آخر .

فإذا اجتمع شخصان في مجلس واحد ، واصدر احدهما إيجاباً للآخر ، فليس من الضروري أن يكون القبول فوراً ، بل يجوز أن يبقى الموجب له يتدبر الأمر شيئا من الوقت ، حتى إذا عقد العزم على القبول فعل ذلك . ويكون قبوله صحيحاً بشرطين : 

( الشرط الأول ) أن يبقى كل من المتعاقدين منشغلا بالتعاقد . فإذا انصرف أي منهما إلى شيء غيره اعتبر مجلس العقد في انفض ، وسقط الإيجاب . 

و ( الشرط الثاني ) أن يبقى الموجب على إيجابه ، فلا يرجع فيه أثناء المدة التي يبقى فيها مجلس العقد قائماً .

ولا شك في أن الوضع على هذا الأساس المستمد من الشريعة الإسلامية قد أصبح وضعاً عملياً معقولا ، ولم تعد الفورية في القبول لازمة ، بل يجوز فيه التراخي مدة معقولة لا ينشغل فيها المتعاقدان بغير العقد ويبقى فيها الموجب على إيجابه . وهذا هو ف ينظرنا خير تفسير لقواعد الفقه الإسلامي في مجلس العقد (   ) .

110 – لا تحتيم في القبول : 

ومتى قام الإيجاب ولم ينقض الميعاد الذي يصح فيه القبول ، فإن الموجب له يكون بالخيار بين قبول الإيجاب أو رفضه ولا يتحتم عليه أن يقبل ، وإلا قام العقد على الإيجاب وحده .

ومهما يكن من بداهة هذا الحكم ، فإن ظروفاً قد تجعل الموجب له ملزماً بالقبول . ويتحقق ذلك إذا كان هو الذي دعا الموجب إلى التعاقد معه . وقد كان المشروع التمهيدي يشتمل على نص في هذا المعنى حذف اكتفاء بتطبيق القواعد العامة ، فكانت المادة 136 من هذا المشروع تنص على أنه

\” يجوز لمن وجه إليه الإيجاب أن يرفضه ، ما لم يكن قد دعا إليه ، فلا يجوز له في هذه الحالة أن يرفض التعاقد إلا إذا استند إلى أسباب مشروعة (   ) \” .

والتطبيقات العملية لهذا النص كثيرة متنوعة . فهناك طوائف من الناس تستحث غيرها على الإيجاب وتدعوهم إليه ، كالتجار في النشرات والإعلانات وقوائم الأسعار التي يوجهونها إلى الجمهور ، وكأصحاب الفنادق والمطاعم يفتحون أبوابهم للطارق ، وكأرباب الصناعات يدعون العمال إلى العمل في صناعاتهم . فإذا استجيبت هذه الدعوة إلى التعاقد ،

كانت الاستجابة إيجاباً يمتاز عما عداه من ضروب الإيجاب بأن من وجه إليه لا يجوز له أن يرفضه لغير سبب مشروع . وقد عللت المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي هذا الحكم العادل بما يأتي :

\” وليس هذا الأثر القانوني إلا نتيجة للحالة التي أنشأها صاحب الدعوة ، بل وتطبيقا من تطبيقات مبدأ جامع هو مبدأ إساءة استعمال الحق أو التعسف في استعماله . على أن الإساءة في هذا الفرض ترد على مجرد رخصة من الرخص ، وهذه خصوصية تسترعى الانتباه .

وقد تعمد المشروع إغفال تعيين الجزاء الذي يترتب على الرفض التعسفي ، فمثل هذا الرفض يرتب مسئولية لا شك فيها . فيجوز أن يقتصر التعويض على مبلغ من المال إذا كان هذا الجزاء كافياً . ويجوز للقاضي في بعض الفروض أن يذهب إلى ما هو ابعد ، فيعتبر أن العقد قد تم على سبيل التعويض إذا كان في الظروف ما يوجب ذلك (   ) \” .

111 – كيف يطابق القبول الإيجاب :

 وإذا كان الموجب له لا يتحتم عليه القبول على النحو الذي قدمناه ، إلا أنه إذا اختار أن يقبل وجب أن يكون قبوله مطابقاً للإيجاب مطابقة تامة ، وان يكون متفقا كل الاتفاق مع الموجب في جميع المسائل التي تناولها الإيجاب .

 

وقد كان المشروع التمهيدي يشتمل على نص في هذا المعنى رؤى حذفه اكتفاء بتطبيق المبادئ العامة . فكانت المادة 137 من هذا المشروع تنص على أنه \” لا يتم العقد ما لم يتفق الطرفان على كل المسائل التي تفاوضا فيها بشأن هذا العقد . أما الاتفاق على بعض هذه المسائل فلا يكفي لالتزام الطرفين ، حتى لو اثبت هذا الاتفاق في ورقة مكتوبة  \” .

 

على أنه ليس من الضروري لإبرام العقد أن يتم الاتفاق على جميع المسائل مسألة مسألة . فقد نصت المادة 95 من القانون الجديد على ما يأتي :

\” إذا اتفق الطرفان على جميع المسائل الجوهرية في العقد ، واحتفظا بمسائل تفصيلية عليها فيما بعد ولم يشترط أن العقد لا يتم عند عدم الاتفاق عليها ، اعتبر العقد قد تم . وإذا قام خلاف على المسائل التي لم يتم الاتفاق عليها ، فان المحكمة تقضي فيها طبقا لطبيعة المعاملة ولأحكام القانون والعرف والعدالة (   ) \” .

والذي يسترعي النظر في الحالة التي جاء فيها هذا النص هو أن المتعاقدين قد حددا مسائل لم يتم الاتفاق عليها واحتفظا بها لتكون محلا للاتفاق فيما بعد ، وبالرغم من إنهما لم يتفقا عليها بعد ذلك ، إلا أن العقد يعتبر قد تم . والذي يبرر هذا الحكم هو أن هذه المسائل ليست جوهرية في العقد ، وان القانون قد افتراض أن نية المتعاقدين انصرفت إلى إبرام العقد حتى لو قام خلاف بينهما على هذه المسائل ، ما دام إنهما لم يشترطا أن العقد لا يتم عند عدم الاتفاق عليها . فتسيراً لنية المتعاقدين على هذا الوجه المعقول أباح القانون للقاضي أن يقضي فيما اختلفا فيه طبقا لطبيعة المعاملة ولأحكام القانون والعرف والعدالة . وهذا أيضاً أمر يسترعى النظر

فإن مهمة القاضي في هذه الحالة تخرج عن المألوف من عمله ، فهو لا يقتصر على تفسير ما اتفاق عليه المتعاقدان ، بل يجاوز ذلك إلى تدبير ما اختلفا فيه ، فهو إذن يساهم في صنع العقد (   ) . ويوجه هذا الحكم فيما انطوى عليه من جرأة أنه ما دام المفروض أن المتعاقدين قد أرادا إبرام العقد ولو لم يتفقا على هذه المسائل غير الجوهرية ، استتبع ذلك أن نفرض أيضاً إنهما أراد أن يحل القاضي محلهما ليبت فيما اختلفا فيه ، لأن هذا هو السبيل الوحيد للملاءمة بين ما اتفقا عليه من إبرام العقد وما اختلفا فيه من المسائل . فإذا اتفق المؤجر والمستأجر مثلا على المسائل الجوهرية في عقد الإيجار

فتراضيا على العين المؤجرة والأجرة والمدة وسائر الشروط الجوهرية ، واختلفا فيمن يتحمل ضريبة الخفر أو أجرة البواب أو اشتراك المياه ، وهي عادة مبالغ زهيدة ، ولم يشترطا أن العقد لا يتم إلا إذا اتفقا أيضاً على هذه المسألة التفصيلية ، كان من المستساغ أن يفترض القانون أن المتعاقدين قد أرادا إبرام عقد الإيجار ، وإنهما تركا للقاضي أن يبت في هذه المسألة غير الجوهرية طبقا للعرف إذا لم يستبيعاهما أن يصلا فيها إلى اتفاق .

فالأمر إذن لا يعدو أن يكون تفسيرا لنية المتعاقدين ،بحيث لو قام دليل على أن نيتهما لم تنصرف إلى ذلك ، وإنهما لم يقصدا إبرام العقد إلا بعد الاتفاق الكامل حتى على هذه المسائل التفصيلية ، لوجب استبعاد النص ، ولنحتم على القاضي أن يقضي بأن عقد الإيجار لم يبرم ما دام أن المتعاقدين لم يتفقا على جميع المسائل التي تناولاها ، جوهرية كانت أو تفصيلية (   ) .

فالقبول إذن يجب أن يكون مطابقا للإيجاب على النحو الذي قدمناه . أما إذا كان غير مطابق له ، بل اختلف عنه زيادة أو نقصا أو تعديلا ، فإن العقد لا يتم ، ويعتبر مثل هذا القبول رفضاً يتضمن إيجاباً جديدا . فإذا طلب البائع ثمنا للمبيع ألفاً تدفع فوراً 

وقبل المشتري أن يدفع الألف على أن يزيد البائع في المبيع ، أو قبل أن يدفع في المبيع وحده ثمانمائة ، أو قبل أن يدفع فيه وحده ألفاً ولكن بالتقسيط ، لم يتم البيع ، واعتبر هذا القبول إيجاباً جديداً من المشتري . وهذا الحكم هو الذي تنص عليه المادة 96 من القانون الجديد إذ تقضي بما يأتي :

\” إذا اقترن القبول بما يزيد في الإيجاب أو يقيد منه أو يعدل فيه ، اعتبر رفضا يتضمن إيجاباً جديدا (   ) \” .

ج – حالات خاصة في القبول – الإرادة فى العقد كركن هام من أركانه

الحالة الأولى – مجرد السكوت قد يكون قبولا : ( * )

112 – المبدأ العام : لا محل للكلام في السكوت باعتباره معبراً عن الإيجاب ، فإنه لا يتصور أن يكون مجرد السكوت إيجاباً . ولكن هل يجوز أن يكون قبولا ؟

يمكن القول بوجه عام إن السكوت في ذاته ، مجرداً عن أي ظرف ملابس له ، لا يكون تعبيراً عن الإرادة ولو قبولا ، لأن الإرادة عمل ايجابي والسكوت شيء سلبي ، ويقول فقهاء الشريعة الإسلامية :

\” لا ينسب لساكت قول \” . وليس السكوت إرادة ضمنية ، فإن الإرادة الضمنية تستخلص من ظروف ايجابية تدل عليها كما سبق القول . أما السكوت فهو العدم (   ) ، وأولى بالعدم أن تكون دلالته الرفض لا القبول . وهذا هو المبدأ العام ، يقول به الفقه والقضاء في مصر وفي غيرها من البلاد (   ) .

113 – الاستثناء : على أن هذا المبدأ العام يقيد منه استثناءات اقرها القضاء المصري في ظل القانون القديم ، وأكدها القانون الجديد في نص صريح ، فقضت المادة 98 بما يأتي :

1 – إذا كانت طبيعة المعاملة أو العرف أو غير ذلك من الظروف تدل على أن الموجب لم يكن لينتظر تصريحا بالقبول ، فان العقد يعتبر قد تم ، إذا لم يرفض الإيجاب في وقت مناسب .

 2 – ويعتبر السكوت عن الرد قبولا ، إذا كان هناك تعامل سبق بين المتعاقدين واتصل الإيجاب بهذا التعامل ، أو إذا تمخض إيجاب لمنفعة من وجه إليه (   ) \” .

فالاستثناء إذن هو أن يعتبر السكوت قبولا إذا أحاطت به ظروف ملابسة من شانها أن تجعله يدل على الرضاء (   ) . هذه الظروف الملابسة ضرب لها القانون الجديد الأمثلة الآتية :

 ( 1 ) إذا كان العرف التجاري الذي جرى عليه العمل قضي بأن السكوت يدل على الرضاء (   ) ، كما إذا أرسل المصرف بيانا لعمليه عن حسابه في المصرف ، وذلك أن عدم الاعتراض على هذا البيان يعد إقراراً له (   ) ، أو كانت طبيعة المعاملة تقضي بذلك ، كما إذا أرسل التاجر البضاعة لمن طلبها وأضاف في \” الفاتورة \” شروط مستجدة سكت عنها المشتري ولم يبادر إلى رفضها (   ) .

 ( 2 ) إذا كان هناك تعامل سابق بين المتعاقدين كما إذا اعتاد عميل استيراد البضائع التي يريدها من تاجر بالكتابة إليه فيرسل له التاجر ما يريد دون أن يؤذنه بالقبول . فإذا طلب العميل شيئاً وظل التاجر ساكتاً كعادته كان للعميل أن يعتبر هذا السكوت رضاء وأن التاجر سيرسل له ما طلب كما عودة (   ) .

وقد يكون هناك عقد سابق بين الطرفين ، فيستخلص السكوت قبولا إذا كان العقد الجديد من مكملات تنفيذ العقد السابق ، أو معدلا له ، أو فاسخاً (   ) .

 ( 3 ) إذا تمحض الإيجاب لمنفعة من وجه إليه وسكت هذا ، فيعتبر سكوته رضاء ، كالهبة التي لا تشترط فيها الرسمية تعرض على الموهوب له فيسكت ، وكعارية الاستعمال تعرض على المستعير فيلزم الصمت (   ) .

وليس فيما تقدم إلا امثله لم ترد على سبيل الحصر ، فكل سكوت تلازمه ملابسات تدل على الرضاء فهو \” سكوت ملابس \” (   ) ( silence circonstancie) ، ويعتبر قبولا ، كما إذا علم الموكل بمجاوزة الوكيل حدود الوكالة فإن سكوته إجازة ،

وكالمالك الحقيقي في بيع ملك الغير إذا علم بالبيع وسكت دون عذر كان سكوته إقراراً للبيع . في كل هذا لو كان الساكت أراد أن يعترض لتكلم ، ولكنه سكت في معرض الحاجة إلى الكلام ، ويقول فقهاء الشريعة الإسلامية هنا أيضاً :

\” السكوت في معرض الحاجة بيان \” .

الحالة الثانية – تنفيذ العقد قد يقوم مقام القبول :

 

114 – يعتبر القضاء المصري أن التنفيذ الاختياري للإيجاب يقوم مقام القبول ، فيتم العقد به ، ويعتبر قبولا ضمنياً (   ) . أما الزمان والمكان اللذان يتم فيها العقد فيتبع في شأن تحديدهما القواعد العامة إذ لا يوجد نص خاص في ذلك . وتقضي القواعد العامة – على ما سنرى – أن العقد يتم وقت أن يعلم الموجب بهذا التنفيذ الاختياري وفي المكان الذي علم فيه ذلك ( م 97 ) ، ما لم يوجد اتفاق بين المتعاقدين يحدد وقتاً أو مكاناً آخر ، كأن يتضح من إرادة الموجب أنه قصد أن يتم العقد من وقت التنفيذ وفي مكانه فيقوم الموجب له بالتنفيذ وفقاً لهذه الإرادة .

وكانا لمشروع التمهيدي يشتمل على نص في هذه المسألة ، فكانت المادة 143 من هذا المشروع تقضي بأنه

\” إذا تبين من إرادة الموجب أو من طبيعة التعامل أو من مقتضى العرف أن تنفيذ العقد يقوم مقام القبول ، فإن العقد يعتبر قد تم في الزمان وفي المكان اللذين بدأ فيهما التنفيذ . ويجب في هذه الحالة المبادرة بإخطار الطرف الآخر ببدء التنفيذ \” . ولكن هذا النص حذف في المشروع النهائي ، حذفته لجنة المراجعة لأنه \” من التفصيلات التي لا ضرورة لها (   ) \” .

على أن النص لو استبقى لبقى وقت تمام العقد ومكانه محددين بحصول التنفيذ لا بعلم الموجب به متى اتضح ذلك ، لا من إرادة الموجب فحسب ، بل أيضاً من طبيعة التعامل أو من مقتضى العرف ، ولوجب على الموجب له أن يبادر بإخطار الموجب ببدء التنفيذ ، ولا يكون هذا الأخطار إلا إبلاغاً للقبول الضمني الذي صدر منذ أن وقع البدء بالتنفيذ (   ) .

الحالة الثالثة – القبول في عقود المزاد :

115 – هناك عقود تتم في بعض الأحيان لا من طريق الممارسة ، بل من طريق المزايدة . واهم هذه العقود البيع والإيجار . فالبيع الجبري عن طريق القضاء أو عن طريق الإدارة يتم بالمزاد .

وكذلك البيوع التي تجريها المحاكم الحسبية . وقد يقع البيع الاختياري كذلك بطريق المزاد إذا اختار البائع هذا الطريق . وكثيرا ما تؤجر الجهات الحكومية ووزارة الأوقاف أراضي وعقارات بطريق المزاد . ويعنينا في العقود التي تتم بالمزايدة أن نعرف متى يتم الإيجاب ومتى يتم القبول . فقد بظن أن طرح الصفقة في المزاد هو الإيجاب ، والتقدم بالعطاء هو القبول . وليس هذا صحيحاً .

فإن طرح الصفقة في المزاد لا يعدو أن يكون دعوة إلى التعاقد عن طريق التقدم بعطاء ، والتقدم بعطاء هو الإيجاب . أما القبول فلا يتم إلا برسو الم 1زاد ، ويكون هو إرساء المزاد على من يرسو عليه . وهذا هو الذي جرى عليه القضاء المصري في ظل القانون القديم ، فقد كان يعتبر التقدم بالعطاء إيجاباً لا قبولا ، ويرتب على ذلك جواز الرجوع فيه قبل إرساء المزاد (   ) .

وأكد هذا المبدأ القانون الجديد بنص صريح . فقضت المادة 99 بما يأتي :

\” لا يتم العقد في المزايدات إلا برسوم المزاد ، ويسقط العطاء بعطاء يزيد عليه ولو كان باطلا (   ) \” .

والعطاء يكون باطلا إذا صدر مثلا من شخص لا يجوز له التعاقد في الصفقة المطروحة في المزاد ، كقاض يتقدم بعطاء في مزاد لبيع عين متنازع عليها إذا كان نظر النزاع يقع في اختصاصه . ويكون قابلا للإبطال إذا صدر مثلا من قاصر أو محجور عليه . فإذا بطل العطاء في الحالين لم يبطل أثره وهو إسقاط العطاء الذي تقدمه .

الحالة الرابعة – القبول في عقود الإذعان ( * ) :

116 – دائرة عقود الإذعان : قد يكون القبول مجرد إذعان لما يمليه الموجب ، فالقابل للعقد لم يصدر قبوله بعد مناقشة ومفاوضة ، بل هي في موقفه من الموجب لا يملك إلا أن يأخذ أو أن يدع . ولما كان في حاجة إلى التعاقد على شيء لا غناء عنه ، فهو مضطر إلى القبول . فرضاؤه موجود ، ولكنه مفروض عليه . ومن ثم سميت هذه العقود بعقود الإذعان (   ) .

هذا الضرب من الإكراه ليس هو المعروف في عيوب الإرادة ، بل هو إكراه متصل بعوامل اقتصادية أكثر منه متصلا بعوامل نفسية .

ويتبين مما تقدم أن عقود الإذعان لا تكون إلا في دائرة معينة تحددها الخصائص الآتية :

( 1 ) تعلق العقد بسلع أو مرافق تعتبر من الضروريات بالنسبة إلى المستهلكين أو المنتفعين .

( 2 ) احتكار الموجب لهذه السلع أو المرافق احتكاراً قانونياً أو فعلياً ، أو على الأقل سيطرته عليها سيطرة تجعل المنافسة فيها محدودة النطاق .

( 3 ) صدور الإيجاب إلى الناس كافة وبشروط واحدة وعلى نحو مستر أي لمدة غير محددة . ويغلب أن يكون في صيغة مطبوعة تحتوى على شروط منفصلة لا تجوز فيها المناقشة وأكثرها لمصلحة الموجب ، فهي تارة تخفف من مسئولية التعاقدية وأخرى تشدد في مسئولية الطرف الآخر ، وهي في مجموعها من التعقيد بحيث يغم فهمها على أوساط الناس .

وأمثلة هذه العقود كثيرة :

فالتعاقد مع شركات النور والماء والغاز ، ومع مصالح البريد والتلغراف والتلفون ، وعقد النقل بوسائله المختلفة من سكك حديدية وكهربائية وبواخر وسيارات وطيارات وغير ذلك ، والتعاقد مع شركات التامين بأنواعه المتعددة ، وعقد العمل في الصناعات الكبرى ، كل هذا يدخل في دائرة عقود الإذعان .

ومن ثم نرى أن القبول في هذه العقود هو كما قدمنا إذعان . فالموجب يعرض إيجابه في شكل بات نهائي لا يقبل مناقشة فيه ، فلا يسع الطرف الآخر إلا أن يقبل إذ لا غنى له عن التعاقد ، فهو محتاج إلى الماء والنور والغاز ، وكثيرا ما تعرض له حاجة إلى الاتصال بالناس عن طريق التراسل ولا بد له من التنقل

والسفر في بعض الأحايين ، وهو مضطر إلى العمل ليكسب ما يقوم بأوده . وقد نصت المادة 100 من القانون الجديد على هذا المعنى في العبارات الآتية :

\” القبول في عقود الإذعان يقتصر على مجرد التسليم بشروط مقررة يضعها الموجب ولا يقبل مناقشة فيها (   ) \” .

117 – طبيعة عقود الإذعان :

 وقد انقسم الفقهاء في طبيعة عقود الإذعان إلى مذهبين رئيسيين . فبضعهم يرى أن عقود الإذعان ليست عقودا حقيقية ، ويذهب فريق آخر إلى إنها لا تختلف عن سائر العقود .

أما الفريق الأول – وعلى رأسهم الأستاذ سالي وتابعه في ذلك فقهاء القانون العام مثل ديجيه وهوريو – فينكر على عقود الإذعان صبغتها التعاقدية ، إذ أن العقد توافق إرادتين عن حرية واختيار ، أما هنا فالقبول مجرد إذعان ورضوخ .

فقعد الإذعان أقرب إلى أن يكون قانونا أخذت شركات الاحتكار الناس باتباعه فيجب تفسيره كما يفسر القانون ، ويرعى في تطبيقه مقتضيات العدالة وحسن النية ، وينظر فيه إلى ما تستلزمه الروابط الاقتصادية التي وضع لتنظيمها . ويرى الأستاذ ديموج ، ويتفق في هذا مع فقهاء القانون العام ، أن عقد الإذعان هو مركز قانوني منظم ( institution) يجب أن يعني في تطبيقه بصالح العمل أولاً ، ثم بما يستحق الحماية من صالح كل من طرفي العقد .

ويرى الفريق الثاني – وهم غالبية فقهاء القانون المدني – أن عقد الإذعان عقد حقيقي يتم بتوافق إرادتين ، ويخضع للقواعد التي تخضع لها سائر العقود . ومهما قيل من أن أحد المتعاقدين ضعيف أمام الآخر ، فإن هذه ظاهرة اقتصادية لا ظاهرة قانونية ، وعلاج الأمر لا يكون بإنكار صفة العقد على عقد حقيقي ، ولا بتمكين القاضي من تفسير هذا العقد كما يشاء بدعوى حماية الضعيف ، فتضطرب المعاملات وتفقد استقرارها ، بل أن العلاج الناجع هو تقوية الجانب الضعيف حتى لا يستغله الجانب القوي . ويكون ذلك بإحدى وسيلتين أو بهما معاً :

الأولى وسيلة اقتصادية فيجتمع المستهلكون ويتعاونون على مقاومة التعسف من جانب المحتكر ، والثانية وسيلة تشريعية فيتدخل المشرع – لا القاضي – لينظم عقود الإذعان .

118 – حكم عقود الإذعان في القانون القديم والجديد :

 

 وقد كانت الحماية في مصر ، في ظل القانون القديم ، حماية قضائية . فكان القضاء من جهة يعتبر عقود الإذعان عقوداً حقيقية واجبة الاحترام (   ) ، فيحترم الشروط لمطبوعة ف يعقد الإيجار (   ) ، وفي عقود التأمين (   ) ، ويلزم من يتعامل مع شركة باحترام لوائحها المطبوعة (   ) ، ومن يتعاقد مع مصلحة السكك الحديد بمراعاة نظمها ولوائحها (   ) . ويقيد المستخدم في عقد العمل باحترام لوائح الخدمة التي يخضع لها (   ) .

إلا أن مع ذلك يغلب الشروط المكتوبة على الشروط المطبوعة (   ) ، ويبطل الإعفاء الاتفاقي من المسئولية (   ) ، ويفسر الالتزام في مصلحة الطرف المذعن (   ) ، وينسخ الإرادة السابقة بالإرادة اللاحقة (   ) 

وجاء القانون الجديد فجعل الحماية تشريعية ، ونظم بنصوص خاصة عقد التزام المرافق العامة وعقد العمل وقد التأمين . وأتى بنصوص عامة لتنظيم عقود الإذعان كافة ، فجعل بذلك للقضاء المصري في ظل القانون القديم سنداً تشريعياً في عهد القانون الجديد ، ومهد أمامه الطريق ليخطو خطوات أوسع في حماية الجانب المذعن . وندع النصوص الخاصة في العقود التي سلفت الإشارة إليها تدرس في مواضعها . ونقتصر هنا على إيراد النصوص العامة 

فقد نصت المادة 149 على أنه \” إذا تم العقد بطريق الإذعان ، وكان قد تضمن شروطا تعسفية جاز للقاضي أن يعدل هذه الشروط أو أن يعفي الطرف المذعن منها ، وذلك وفقا لما تقضي به العدالة . ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك (   ) \” .

وهذا النص في عمومه وشموله أداة قوية في يد القاضي يحمى بها المستهلك من الشروط التعسفية التي تفرضها عليه شركات الاحتكار . والقاضي هو الذي يملك حق تقدير ما إذا كان الشرط تعسفياً ، ولا معقب لمحكمة النقض على تقديره ما دامت عبارة العقد تحتمل المعنى الذي أخذ به . فإذا كشف شرطاً تعسفياً في عقد إذعان ، فله أن يعدله بما يزيل اثر التعسف ، بل له أن يلغيه ويعفى الطرف المذعن منه 

ولم يرسم المشرع له حدوداً في ذلك إلا ما تقتضيه العدالة . ولا يجوز للمتعاقدين أن ينزعا من القاضي سلطته هذه باتفاق خاص على ذلك ، فإن مثل هذا الاتفاق يكون باطلا لمخالفته للنظام العام ، ولو صح للجأت إليه شركات الاحتكار وجعلته شرطاً مألوفاً ( clause de style ) في عقودها .

ونصت المادة 151 على ما يأتي : \”

1 – يفسر الشك في مصلحة المدين .

 

2 – ومع ذلك لا يجوز أن يكون تفسير العبارات الغامضة في عقود الإذعان ضاراً بمصلحة الطرف المذعن (   ) \” .

وقد ورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي ويراعى من ناحية أخرى أن الأصل أن يفسر الشك في مصلحة المدين عند غموض عبارة التعاقد غموضاً لا يتيح زواله . وقد استثنى المشروع من حكم هذا الأصل عقود الإذعان ،

فقضى أن يفسر الشرك فيها لمصلحة العاقد المذعن ، دائناً كان أو مديناً . فالمفروض أن العاقد الآخر ، وهو أقوى العاقدين ، يتوافر له من الوسائل ما يمكنه من أن يفرض على المذعن عند التعاقد شروطاً واضحة بينة . فإذا لم يفعل ذلك اخذ بخطاه أو تقصيره وحمل تبعته ، لأنه يعتبر متسبباً في هذا الغموض من وجه :

أنظر المادة 1288 من التقنين الإسباني وكذلك المادة 915 من التقنين النمساوي وهي تنص على أن إبهام العبارة يفسر ضد من صدرت منه (   ) \” .

الحالة الخامسة – القبول في عقود الجماعة وفي العقود النموذجية :

 

119 – تضمن المشروع التمهيدي نصين ن احدهما خاص بعقود الجماعة ( contrats collectives ) ، والثاني بالعقود النموذجية ( contrats – type) .

فكانت المادة 146 من المشروع التمهيدي تنص على أنه

” في عقود الجماعة يتم القبول برضاء الأغلبية ، وترتبط الأقلية بهذا القبول \” . ومثل عقود الجماعة عقد العمل الجماعي ( contrat collectif du travail) ، وهو العقد الذي ينظم شروط العمل ما بين طائفة أصحاب الأعمال وطائفة العمال . ويتم الإيجاب والقبول فيه برضاء الأغلبية من كل من الطائفتين

وترتبط الأقلية بالعد . وهنا نرى أن كل فرد من الأقلية قد ارتبط بعقد لم يقبله ولم يكن طرفاً فيه ، وأصبح لا يستطيع الانحراف في عقد فردي عن نصوص العقد الجماعي . وفي هذا خروج بين على القواعد المدنية ، يعلله أن عقود الجماعة أقرب إلى القوانين منها إلى العقود ، وهي على كل حال تنشئ مراكز قانونية منظمة ( institutions) .

وكانت المادة 147 من المشروع التمهيدي تنص على أنه \”

إذا وضعت السلطة العامة أو أية هيئة نظامية أخرى نموذجاً لأحد العقود ، فإن من يبرم هذا العقد ويحيل على النموذج يتقيد بالشروط على الوردة فيه \” .

والعقد النموذجي هو الذي تضعه سلطة عامة أو أية هيئة نظامية أخرى ، كعقود الإيجار النموذجية التي تضعها وزارة الأوقاف أو المجالس البلدية أو النقابات . ويقضى النص السالف الذكر بأن من يتعاقد محيلا في تعاقده على عقد نموذجي يتقيد بالشروط الواردة فيه ، لأن الإحالة عليه تفترض أن المتعاقد قط اطلع على ما ورد فيه من الشروط وارتضاها .

وقد حذف هذان النصان في المشروع النهائي ، حذف الأول لأن مكانه يحسن أن يكون في تشريع خاص ، وحذف الثاني لوضوح الحكم الوارد فيه (   ) .

Print Friendly, PDF & Email
عبدالعزيز حسين عمار محامي بالنقض
عبدالعزيز حسين عمار محامي بالنقض

الأستاذ عبدالعزيز حسين عمار المحامي بالنقض خبرات قضائية فى القانون المدنى والملكية العقارية ودعاوى الإيجارات ودعاوى الموظفين قطاع حكومى وخاص وطعون مجلس الدولة والنقض ليسانس الحقوق 1997

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

* { -webkit-touch-callout: none; /* iOS Safari */ -webkit-user-select: none; /* Safari */ -khtml-user-select: none; /* Konqueror HTML */ -moz-user-select: none; /* Old versions of Firefox */ -ms-user-select: none; /* Internet Explorer/Edge */ user-select: none; /* Non-prefixed version, currently supported by Chrome, Opera and Firefox */ }